لماذا اختار العروي، بعد مسار عمري طويل، أن تكون وصيته الفكرية التي يتوج بها إنتاجه الفكري والمعرفي الغزير، عبارة عن تأملات في الكتاب العزيز؟ ما دلالة ذلك عند مفكر كبير ظل وفيا لشعاره الخالد «التاريخانية»، باعتبارها مفتاح تحررنا من التأخر التاريخي، والتحاقنا بركب التقدم الحضاري والرقي الإنساني، الذي ليس شيئا، سوى تحقيق الغرب في ديارنا؟ وماهي المسوغات التاريخية والقيمية التي تجعل العروي يعتبر الإسلام الأول هو مهد هذا الغرب والحضارة الغربية المعاصرة؟ ولماذا اختار العروي أسلوب الرسالة لبث بنود وصيته هذه، التي وسمها ب»عقيدة لزمن الشؤم»؟ ولماذا اختار النطق على لسان امرأة؟ هل لأن المرأة ، بحكم ما تكابده من أشكال المنع والميز، في عالمنا، أقرب إلى الحقيقة كما يعتقد؟ هذه وغيرها من الأسئلة الكثيرة التي سنحاول إثارتها ونحن نتأمل في «عقيدة» العروي التي استخلصها من معايشته للقرآن الكريم. يعود العروي بين الفينة والآخرى ، حلاله سفره في الكتاب العزيز، إلى تذكير نفسه، من خلال سائلته المتخيلة، بمنهجيته في القراءة، التي يصفها بالمباشرة، و”البريئة”، و”الخالية من كل مسبقات نظرية جاهزة (ص124). صحيح أنه يعتبر القرآن وثيقة مادية، ينسحب عليها ما ينسحب على كل الوثائق، من قابلية للتأمل والتدبر، والفحص والتمحيص، بل إنه لا يعترض على إخضاعها لجميع أنواع النقد المعاصر. وكيف لا يمكن إخضاع القرآن للنظر العقلي والتدبر الفكري، والقرآن نفسه يدعو إلى هذا التدبر وذلك النظر في أكثر من آية وسورة؛ وهذا ما يجعل العروي يقول لمخاطبته “لا تنسي أن الأمر بطاعة لله ورسوله هو أمر باتباع العقل والعدل” (ص125). كما أنه لا مانع، في نظره ، أن نخضع للنقد كلما تولد عن القرآن من أعمال وأقوال وأحكام. “إذ بحلول النبي في المدينة، بانغماسه في مشاغل الدنيا، بوقوعه في حبائل التاريخ، فإنه وجد نفسه في مجال غريب عنه” (ص125). إن الفرق بين المعاصرة والتقليد يكمن في هذه النقطة بالذات، مادامت روح المعاصرة روحا نقدية بامتياز، بينما يدل مفهوم التقليد عند عبد لله العروي على عدم مراجعة الموروث ومساءلته ونقده (ص129). وفق هذه المنهجية، المتميزة بحاستها النقدية الحادة، يتعاطى العروي مع “السنة” باعتبارها “الإسلام كما تجسد في التارخ” (ص129). مستغلا بعض الشكوك المفترضة، التي ساقها على لسان شخص آسوي؛ ليعززها، بعد ذلك، بمجموعة من الشكوك، من خلال تساؤلات، لا تخفى على قارئها نزعتها الرامية إلى تجديد منهجية تعاطينا مع السنة والتقليد الإسلاميين. فهل يجوز لنا، يتساءل العروي، الاستمرار في التسليم بكل الروايات الجاهزة، المتوارثة جيلا عن جيل، والممثلة لما يعتبره “الرواية الرسمية” مع أن “دواعي الشك فيها كثيرة وملحة”؟ (ص128) إن الجواب عند العروي لن يكون، طبعا إلا كما سنتوقعه، حيث يحسم الموقف قائلا: “لا شيء مما يروى عن هذه الحقبة، وهي طويلة، يعلو على النقد”(ص128). سيطبق العروي المنهج ذاته الذي طبقه خلال قراءته للكتاب العزيز، على السنة أيضا؛ إذ سيقرأها قراءة مباشرة، من دون واسطة، “بريئة”، و”غير متحفظة”، من دون أي اهتمام بالدراسات اللغوية أو البلاغية أو الدراسات التي ركزت على المعاني والأحكام. ينطلق العروي من سؤال محوري، وهو “كيف تكونت السنة”؟ وكيف تشكلت ولأي هدف؟ يعود العروي إلى التاريخ ليستقي الإجابة، فبعد ثلاثين سنة على وفاة النبي(ص) تفرقت الجماعة المسلمة إلى ثلاث فئات متصارعة صراعا عاديا وطبيعيا ما دامت السلطة، أيا كان نوعها، لا تزاول إلا بواحد من وجوه ثلاثة: يزاولها إما فرد متسلط وإما جماعة منتقاة وإما الكل بلا استثناء” (ص130 ). أما الفئات الثلاث فهم الخوارج الذين انتصروا للحكم بما أنزل لله، والمؤلفة قلوبهم من أشراف مكة، أصحاب نظرية “حكم الأشراف”، والشيعة القائلين بوراثة آل البيت للسلطة. لقد كان واضحا بالنسبة للعروي منذ البدايات الأولى لهذا الصراع، “أن المؤهلين للفوز والغلبة هم أشراف مكة”( ص130)، الذين فرضوا فهمهم للقرآن، ووضعوا بمسلكياتهم وتصرفاتهم، أسس السنة، أي ” كيفية تطبيق النص الأزلي على الواقع البشري المتحول”؛ بحيث لم تجد التأويلات والاجتهادات التي واجههم بها خصومهم من الخوارج والشيعة نفعا؛ فاضطر الأولون “إلى الانفصال والعزلة”، بينما عمل الآخرون على “تأسيس سنة موازية، باعتماد الطريقة نفسها التي سار عليها أهل الجماعة “(ص130).