الكتاب الذي نعرضه هذا الأسبوع ألفه عبد الله العروي سنة 2008 على شكل أجوبة عن أسئلة حارقة طرحتها عليه سيدة أمريكية مسلمة، تبحث عن استعادة جذورها الضائعة في مجتمع حداثي ومتعدد الأديان . تساؤلات تثير علاقة الإسلام بالحداثة و علاقته بالأديان الأخرى في فضاء يزداد فيه التماس بين الأديان وتتقارب الجغرافيا إلى حد لم يعد بالإمكان الانفلات منه. كما يطرح كذلك قضايا خلافية يعرفها الفكر العربي الإسلامي مثل علاقة العقل بالمذاهب الأربعة وأيضا علاقة الفلسفة بالعلم و علم الكلام...الكتاب أيضا مثير على مستوى الشكل، إذ يصعب تصنيفه و إخضاعه للتجنيس أو محاولة إيجازه و تلخيصه. كتاب عصي عن التصنيف و لا يخضع لأي تجنيس..لا هو دراسة فلسفية أو فكرية ولا هو كتابة تاريخية أو غيرها...ربما تكون هذه أول ملاحظة/صدمة يستشعرها كل من ينتهي لتوه من قراءة «السنة و الإصلاح» لعبد الله العروي. قراءة لا تكفي وحدها لفك شفرات الكتاب و لا تفكيك المفاهيم العديدة التي تنتشر على امتداد صفحاته، بل تحتاج إلى قراءة ثانية أو أكثر بحثا عن استجلاء ما غمض من دلالات و إشارات ومضات شعرية يدسها الكاتب بطريقة مدهشة و مؤثرة بين ثنايا نص لا ينتمي إطلاقا للحقل الشعري. وربما لذلك يصنفه عبد السلام بنعبد العالي ضمن الكتب «التي تستدرج قارئها لا لتأمل محتواها فحسب، ولا لبذل جهد مضاعف لاستجلاء معانيها بقراءتها و إعادة قراءتها، و إنما هو من الكتب التي تدعوك لإعادة كتابتها بحيث لا يكفي القارئ أن يسترسل في القراءة كي يستخلص ما يمكن استخلاصه، و إنما هو مضطر، في، أغلب الأحيان، إلى الرجوع القهقرى لتوليد المعنى. هذا الرجوع ربما لا يكفي تفسيره بعجز القارئ عن التمثل المباشر لمعاني الفقرات، وإنما مرده، في ما أعتقد، إلى أن أطروحات الكتاب لا تشكل قضايا تتوالد عن تحليل فتركيب، بقدر ما تتساكن كي تحيل إلى بعضها بعضا»، مضيفا أن «المعنى لا يؤلَّف هنا من خلال متابعة نمو، بقدر ما يركب بالإحالة إلى معان أخرى متفرقة لا تخضع لتراتب أو تسلسل ينم عن كون المعاني تتقدم عندما تتراكم، إلى حد أننا لا نستطيع حتى في ما يتعلق بالشكل أن نجزم بأن السابق في هذا الكتاب يحدد اللاحق». و لعل هذا ما يجعل أي محاولة لاختصار الكتاب أو عرضه محاولة قد يكون مآلها الفشل أو التعثر بسبب طبيعة النص المتملصة وكذا خاصية التشذير التي وشمته، وجعلته يتوزع على أكثر من 106 شذرات. الكتاب، هو كذلك، نوع من البوح والكشف عن مكنون داخلي بتعبير جريء غير معهود إلا في بعض الكتابات العربية المتميزة عن غيرها. الأمر يتعلق بأسلوب يمكن إدماجه في دائرة الأساليب المبتكرة على مقاس معين لا يجرؤ عليه إلا من امتلك وجرب ومارس الكتابة في تجلياتها الكثيرة حد أن الكتابة صارت أداة طيعة بين يديه. الأسلوب الذي صاغ به عبد الله العروي كتاب «الإصلاح والسنة» جعل البعض يستحضر بعضا من نظيره في كتابات أخرى كما هو الشأن عند ذ. لطفي بوشنتوف، الذي كتب في هذا الباب: «استحضرت وأنا أتابع حديثا لكلود ليفي ستروس عن علاقته بالكتابة، بث بمناسبة الاحتفال بمئويته، تقاطعات بين عبد الله العروي لحظة كتابته السنة والإصلاح، ورائد الانثروبولوجية البنيوية لحظة تأليفه كتابه الشهير «مدارات حزينة» ، وهي تقاطعات أحسبها تبدد شيئا من الحيرة التي استقبل بها الكتاب.» (موقع رباط الكتب) ويتابع بوشنتوف مفسرا هذه التقاطعات وطبيعتها وعلاقتها ببعضها البعض ففي قوله: «التقاطع الأول، يكمن في أن كلود ليفي ستروس حبر كتابه المذكور لحظة شعور بخيبة أمل في الطائفة العلمية، التي لم يجد فيها آنذاك صدى كتابه المؤسِّس «البنيات الأولية للقرابة» . والشحنة التي كتب بها نص السنة والإصلاح وعنوانه الحاضر- الغائب يشيان، خصوصا عند المقارنة بخاتمة مفهوم العقل، بنوع من الخيبة شعر ويشعر بها العروي لانتفاء الصدى المطلوب في دعوة تنويرية- إصلاحية دامت قرابة أربعة عقود. التقاطع الثاني والمترتب على الأول، له علاقة بطريقة الكتابة. فكما فعل ليفي ستروس في «مدارات حزينة»، تحرر عبد الله العروي من الضوابط الأكاديمية في الكتابة من دون التخلي عن القواعد العلمية والأدوات المنهجية المألوفة فيه. اختار مثل رائد الانثروبولوجية البنيوية خلق حوار حجاجي بين الذات المختزلة للتجربة، وبين موضوع الكتاب وقضاياه. وهي حالة ذاتية، غير بعيدة عن جنس كتابة تاريخ الذات، «تكشف عن وعي بالتاريخ، وتنفي القدرة على التنصل منه، وتفتح الباب على مصراعيه لمن يرغب في التوبة إلى الذات. هو ما أفصح عنه بكون ما كتبه يعبر عن هم ذاتي، ولا يفهم إلا إذا نسخ في تجربة ذاتية، وبأن ما صدر عنه «ثمرة تجربة شخصية تولدت عن وضع تاريخي خاص». ومن هذا المنطلق، يمكن فهم اختياره مخاطبا افتراضيا له مواصفات مضبوطة على أنه مساءلة للذات بمفهومها الواسع، ولكن «بدافع من الواقعية»، أي من موقع المثقف العضوي البعيد عن التجريد، المعانق للتاريخ، المهموم بواقعه المجتمعي (ص. 6 ، 7، 11).» وينتهي بوشنتوف إلى التقاطع الثالث الذي يقول فيه: «التقاطع الثالث، يتمثل في ميزتي عمق التشخيص والتحليل، واللذين لا يتأتيان-كما صور ذلك ليفي ستروس مسترجعا مخاض كتابة مدارات حزينة- إلا بقراءات متعددة أفقية، متمفصلة بقراءات مماثلة عمودية. قراءات شبيهة بنوتة الموسيقى، كلما تعقدت وتداخلت وتراكبت أعطت نغما غير عادي، ونصا مختلفا عن المألوف.» رصيد خصب صدر كتاب «السنة والإصلاح» سنة 2008عن المركز الثقافي العربي. وهو آخر ما ألفه عبد الله العروي باللغة العربية طيلة مسار فكري و إبداعي خصب ومتنوع امتد أزيد من ثلاثة عقود، وكانت الحصيلة أكثر من ثلاثين مؤلفا باللغتين العربية و الفرنسية توزعت بين مجالات الفكر و التاريخ و التحليل السياسي والنقد الأدبي و الكتابة الروائية. وكانت البداية مع كتابه «الأيديولوجية المعاصرة» سنة 1967، ورواية «الغربة» سنة 1971، و«العرب و الفكر التاريخي» سنة 1973، و «أزمة المثقفين العرب» سنة 1974، و«الجزائر والصحراء المغربية» باللغة الفرنسية عام 1976، مرورا ب«مفهوم الأيديولوجيا» سنة 1980، و«مفهوم الدولة» سنة 1981، ورواية «الفريق» سنة 1986، و«أوراق» سنة 1989، و«مفهوم العقل» سنة 1996، وانتهاء ب»الإسلام والتاريخ» باللغة الفرنسية عام 1999، و«المغرب و الحسن الثاني» باللغة الفرنسية عام 2005، ورواية «الآفة» سنة 2006، وأخيرا «السنة والإصلاح» سنة 2008، إضافة إلى مقالات عديدة نشرها في الموسوعة الجامعة والموسوعة البريطانية. السائلة و المسؤول لا يخفي العروي منذ البدء أن كتابه «السنة والإصلاح» هو إجابة عن أسئلة حارقة طرحتها عليه سيدة أجنبية سبق أن استمعت إليه مرة وهو يحاضر في إحدى مؤسسات الشاطئ بالولايات المتحدة، فبحثت عنه في الشبكة العنكبوتية و قررت مراسلته. لا نعرف عن السيدة شيئا سوى ما يقدمه المؤلف نفسه عنها.كما أننا لا نعرف أي وسيلة للتواصل اعتمدها الاثنان معا فيما بينهما. والسيدة عموما، كما يقدمها عبد الله العروي، مواطنة أمريكية، مسلمة، أمها أجنبية، وقد تلقت تعليما علمانيا صرفا، وهي متخصصة في البيولوجيا البحرية. كما أنها مطلقة من رجل مشرقي و لها منه ابن في التاسعة من عمره تخشى على مستقبله كما تخشى على مستقبلها هي الأخرى، خاصة أنها مفصولة عن جذورها الحضارية، ومتغذية بشكوك العلم المادي الحديث، لكن يظل همها أن تحافظ على هويتها و أن تحتفظ بصفاء قلبها و راحة ضميرها دون أن تتنازل عن قيم الحداثة التي تؤمن بها. هذا التمسك بالهوية كانتماء و في الآن نفسه الأخذ بالحداثة كسلوك و أفق للعيش يثير بالنسبة إلى العروي إشكالية الإسلام و الحداثة و كذا علاقة الإسلام ببقية الأديان الأخرى، بما أن السائلة تعيش في مجتمع متعدد الأديان و حداثي «يعيد النظر في كل ما يقول ويفعل». حدود النقاش التي رسمتها كل من السائلة (السيدة الأمريكية) و المسؤول (عبد الله العروي) ظلت حبيسة الحقل الأخلاقي، وهو ما جعل موضوع الكتاب ينزاح أحيانا عن بعده التاريخاني الذي أراده منهجا لكتابه نحو بعد روحاني يتصل بالقرآن وبتجربة الرسول (ص) وكذا إبراهيم الخليل. من هذا المنظور يحكي عبد الله العروي أن هناك مؤسسة أمريكية تهتم أساسا بترسيخ دعائم السلم بين الشعوب وتشجيع التفاهم بين الثقافات، وتملك قصرا في جبال الألب بإيطاليا، وتقوم باستضافة الباحثين من مختلف الجنسيات موفرة لهم كل الإمكانات لمتابعة أبحاثهم في أحسن الظروف، وقد طلبت منه الترشح لاستضافته في قصرها، فاقترح عليها أن يقوم بتجربة ذهنية، تتلخص في أن يذهب إلى القصر المنعزل مرفوقا بالقرآن الكريم ويظل هناك معتكفا على تأمله ستة أشهر، مستغنيا عن كل الوسائط من شرّاح و مفسرين و مؤولين، حتى يعرف ماذا يبعث القرآن في نفسه، وفي وضعيته الحالية، وعمره الحالي وكذا ثقافته وتجربته، لكن المؤسسة رفضت اقتراح العروي، وهو ما دفعه إلى اقتراح نفس التجربة على سائلته، أي خوض تجربة قراءة القرآن بلا واسطة، قراءة «بريئة، خالية من كل مسبق». المسبق والوساطة هي كل التراكمات التي أنتجتها تفسيرات الشراح و المفسرين حول القرآن. التجربة الإبراهيمية لا تكتمل هذه التجربة لدى العروي عند حدود قراءة النص المقدس دون وسيط أو مرجعية، بل تستتبعها تجربة أخرى لصيقة بها. ذلك أن استعادة التجربة المحمدية لا تتم إلا بالقرآن. كما أن استعادة هذه التجربة ترتبط بخيوط عميقة مع تجربة إبراهيم الخليل، إذ أن الرسول أعاد إحياء تجربة الخليل واستحضر زمنه في قطعه مع كل الماضي الوثني ودعوته إلى إله واحد، وهي نفس الدعوة التي نادى بها قبله إبراهيم الخليل. إعادة تجربة الخليل هي عودة إلى الأصل بالنسبة إلى عبد الله العروي، مادام هو الدعامة، إذ لا دين إلا يكون المنحى الإبراهيمي ركيزته وعمدته لأن « الواحد الدائم، من لا اسم له، لأنه صاحب الأسماء كلها، انكشف لإبراهيم، في إبراهيم وفي ذريته المتكاثرة». من هذا المنظور، يرى العروي أن العودة إلى إبراهيم هي الحل لكل الصراعات والتقاتلات بين الأطياف والأديان، ما دامت التجربة الإبراهيمية هي أصل التجارب ومادامت الأديان تلتقي فيها. في السياق ذاته يكتب محمد الصغير جنجار (نفس المصدر):» صورة إبراهيم أو تجربته ترمز أيضا، من منظور عبد الله العروي، إلى ما يمكن أن نسميه وفق تعبير شهير لكارل ياسبرز نوعا من «المنعطف المحوري) على مستوى الوعي الديني. منعطف رئيسي ارتبطت به تحولات أخرى ذات طبيعة سياسية اجتماعية وثقافية (ميلاد الإمبراطوريات الكبرى والدخول في حضارة المكتوب..). إنه التحول الذي نختصره عادة في عبارة الانتقال من التعدد نحو التوحيد. تجربة إبراهيم بهذا المعنى تدشن مسارا طويلا ستتخذ خلاله التجربة عدة صيغ، وستتجدد حيث سيحل الواحد في صورة شعب مميز أو مختار يحمل رسالة إلى باقي الأمم (اليهودية) ثم سيصبح أبا راعيا حنونا لا يتردد في الكشف عن ذاته والتجسد في شخص فرد وتقديم نفسه فداء للبشر. وسيؤدي هذا المسار الطويل، حيث يتواصل الدعاء نفسه، وتتعدد الأجوبة، لصيغة جديدة يجسدها الإسلام، حيث العودة إلى التجربة الإبراهيمية في «براءتها» الأولى وحيث «الواحد لا يتجسد إلا في كلمة تُسمع وتقرأ وتتلى» (ص.70 ). تلك هي التجربة التي سيجددها النبي محمد داعيا إليها قومه من العرب، والأقوام الأخرى». ويتابع الصغير جنجار متوسعا في فكرته حول لجوء العروي إلى صورة ورمزية ابراهيم من خلال حديثه عن «استدعاء» ابراهيم لتأويل التجربة التاريخية للعرب؛ فيقول: «بعد أن يستدعي عبد الله العروي الوجه الإبراهيمي لتأويل التجربة المحمدية والدعوة الدينية المتولدة عنها، يستدعيه ثانية لتأويل التجربة التاريخية للعرب (عرب الشمال الغربي) والتي قادتهم أولا لرفض الصيغ السابقة التي قدمت لهم طيلة قرون عن التجربة الإبراهيمية (اليهودية والنصرانية)، ولاستقبال العرض المحمدي في القرن السابع. هناك، في نظر العروي، مانع نفسي قوي عند هؤلاء العرب جعلهم يرفضون لمدة طويلة الاندماج في الأمم والتجارب الدينية التي عرضت عليهم لمدة طويلة من الزمن. وهذا المانع يتمثل في اعتقادهم الراسخ بكونهم يحملون فكرة عن ذاتهم، تميزهم عن الآخرين. وفي هذه الميزة يكمن أحد أقوى شروط ظهور وانتشار الإسلام بينهم. وهنا يدعونا، من خلال السيدة التي يخاطبها، لأن نقوم بتجربة ذهنية بسيطة تمكننا من فهم هذا الاستعداد النفسي/الثقافي الذي ظل مخزونا أو محفوظا في ذاكرة الشعب العربي، ولعدة قرون، وكأن هناك حتمية كامنة في شخصية هذا الشعب، تقوده ليعيش صيغة مخالفة للتجربة الإبراهيمية الأصلية.». قضايا خلافية بعيدا عن انشغالات السيدة الأمريكية، التي تبدو غائبة في الكثير من الفترات و لا يصلنا صوتها الباهت إلا عبر الكاتب نفسه، يغوص العروي في قضايا خلافية تهم الفكر العربي الإسلامي، آخذا بجدية أولوية السابق على اللاحق، طارحا علاقة الإسلام بالأديان الأخرى، وكذا علاقة العقل بالمذاهب الأربعة، و الفلسفة بالعلم وعلم الكلام... يقوده في ذلك انشغاله بحال و مآل الجماعة البشرية، التي يؤكد أنه قرر «الاندماج الكلي» فيها و ربط مآله بمآلها. تطبيق النص الأزلي على الواقع البشري «لقد قرأنا الكتاب قراءة بريئة، غير متحفظة، متوقفين عند الأمارات الدالة، دون اعتبار لما قد تسفر عنه الدراسات الجارية، أكانت تخص اللغة أو البلاغة أو المعاني أو الأحكام. و ما فعلناه مع النص المؤسس، لماذا لا نفعل مثله مع ما نسميه السنة، أي الإسلام كما تجسد و تطور في التاريخ» يقول عبد الله العروي، متسائلا عن كيفية تكون السنة و من قام بذلك العمل و لأي هدف؟ يرى العروي أن أسس السنة تم وضعها بعد وفاة الرسول (ص) من قبل أشراف مكة، الذين كانت لهم الغلبة و كانوا مؤهلين أكثر من غيرهم لفرض فهمهم للنص، فوضعوا أسس السنة عبر سلوكهم و آرائهم، أي عبر كيفية تطبيق النص الأزلي على الواقع البشري. غير أن هؤلاء الأشراف لم يكونوا وحدهم معنيين بمسألة تطبيق النص الأزلي على الواقع، إذ ظهر لهم مناوئون واجهوهم بتأويلات مخالفة، لكن بدون جدوى ، وهو ما جعلهم ينسحبون من ساحة المواجهة رافضين كل سنة كما فعل الخوارج أو يؤسسون سنة مضادة و معارضة للأولى كما فعل الشيعة. و من وجهة نظر تاريخية، يلاحظ العروي أن تطور الفقه كانت له انعكاساته على القضاء، إذ تناقصت صلاحيات القاضي أمام نفوذ الفقيه، وكانت النتيجة أن انحصر مجال مبادرة الفرد و تنامت بالمقابل «دواعي الخضوع و الانقياد لرأي جماعة معدودة، مؤهلة وحدها لإظهار الحق قولا و فعلا» مسجلا أنه «في نهاية القرن الخامس الهجري لم يعد يوجد عندنا فكر ليس له تقليد خاص به، يخضع له خضوعا تاما. كان لكل جماعة شيخ و لكل مفكر مرشد و إمام، فلم يعد مجال لأي مناظرة صريحة، متعمقة، مفيدة». وقد لا حظ أن أفول المعتزلة و كذا أفول الفلاسفة و المتصوفة و رجحان كفة الحنابلة رسخ الاتجاه الظاهري، لدرجة أنه لغاية عصر النهضة لم تطرح أي إشكالية حقيقية، وهذا أدى إلى تراجع العقل لصالح النقل و تراجع الباطن لفائدة الظاهر بعدما غزا التصوف الطبقات الشعبية الأمية و إفراغ المفردات من مضمونها الفلسفي، مما أدى إلى تراجع عدة حقول معرفية، وتأثر التاريخ أيضا بشكل سلبي، إذ تم شله في فترة زمنية معينة، والنتيجة هي أنه «تحت هذا الضغط الهائل يتعثر التاريخ»، حسب العروي. مقابل الاتباع والتقليد والاحتماء بالماضي ورفض التغيير أو أي تطور تاريخي، ينتصب الزمن باعتباره «منبع كل المفارقات التي تواجه المذهب السني، بل كل تفكير تقليدي» كما يقول العروي. ومن هذا المنظور، بمجرد ما نأخذ بعين الاعتبار الإواليات الزمنية ندخل مرحلة الإصلاح.