تصلح مواقف بعض الأحزاب المعبّر عنها من مشروع قانون «فرنسة» التعليم، الذي هو قيد النقاش في البرلمان، مادة مفيدة لفهم كيف يمارس التضليل السياسي. ففي الوقت الذي يتطلب الموقف الوضوح والمسؤولية والشجاعة، ترى البعض، ممن اعتادوا التدليس على الرأي العام، يبذلون كل جهدهم من أجل خلط الأوراق، سيّرا على نهج سياسي مازال يعتقد أن السياسة هي القدرة على التضليل والخداع، مادام قول الحقيقة مكلفا مع من هو «فوق». والحقيقة أن أصل المشكل القائم حاليا حول مشروع قانون التعليم مصدره هؤلاء الذين يجلسون «الفوق»، ولا يظهرون لأحد، ممن دأبوا على إصدار التعليمات، دون أن يسائلهم أحد حول مصدرها بالضبط، لسبب بسيط أن معظم نخبتنا السياسية مدجّنة، بعدما جعلت مصلحتها الشخصية هي مبتدأ السياسة ومنتهاها. ماذا وقع إذن؟ خلال الحكومة السابقة، توصل المجلس الأعلى للتكوين والبحث العلمي إلى رؤية استراتيجية متوافق عليها بين كل القوى السياسية والنقابية والمدنية، بما في ذلك حول النقط الأكثر إثارة للخلاف، وتتعلق بلغات التدريس. وبعد شد وجذب، بعيدا عن الأنظار، جرى التوافق حول إمكانية إعمال مبدأ «التناوب اللغوي»، الذي شرحته الرؤية الاستراتيجية بأنه «إمكانية تدريس بعض المجزوءات أو المضامين باللغات الأجنبية»، والقصد طبعا هو اللغة الفرنسية، بزعم أنها لغة العلوم، وهو زعم كاذب. وفي 15 ماي 2015، أقيم حفل بالدار البيضاء، ترأسه الملك محمد السادس، الذي تسلم الرؤية، وسلّمها بدوره إلى رئيس الحكومة السابق من أجل تحويلها إلى قانون إطار، وقد استغرق العمل فترة طويلة، حيث لم يصادَق على القانون الإطار في المجلس الوزاري سوى في غشت 2018، أي بعد ثلاث سنوات. وأحيل المشروع على مجلس النواب في شتنبر 2018، حيث تبيّن أن هناك اختلافا بين الرؤية الاستراتيجية والمادة 31 من مشروع القانون. فبينما تسمح الرؤية باستعمال اللغات الأجنبية في تدريس «بعض المضامين أو المجزوءات من بعض المواد»، وهو ما أكدته المادة 2 من مشروع القانون كذلك، جاءت المادة 31 من مشروع القانون بمقتضيات مختلفة، حيث نصت على إمكانية «تدريس بعض المواد، لاسيما العلمية والتقنية منها، أو بعض المضامين أو المجزوءات في بعض المواد الأخرى، بلغة أو لغات أجنبية». وهكذا ظهر أن المادة 31 تناقض ما ورد في الرؤية الاستراتيجية، ما دفع رئيس الحكومة السابق إلى الانتفاض، لأن «تلاعبا» قد وقع في مكان ما أخل بالتوافق الذي حصل في المجلس الأعلى للتعليم. نتيجة للخلافات داخل لجنة التعليم بمجلس النواب، شُكِّلت لجنة تقنية للبحث عن التوافق مرة أخرى، بعدما جرى تجاوز التوافق الذي حصل في المجلس الأعلى للتعليم، واستعِين بهيئات أخرى في الموضوع، مثل رؤساء الفرق النيابية، بإشراف من رئيس مجلس النواب، وبهيئة رؤساء أحزاب الأغلبية، من أجل بناء توافق جديد، وهو ما كاد يتحقق في اجتماع رؤساء الفرق يوم 13 فبراير، لولا اعتراض حزب العدالة والتنمية في اللحظة الأخيرة، حيث إن رئيس فريقه أعطى موافقة أولية على صيغة معينة، لكنه اشترط الرجوع إلى قيادة حزبه. تنص الصيغة المتوافق عليها على إمكانية تدريس المواد العلمية والتقنية وبعض المضامين أو المجزوءات باللغات الأجنبية، وعلى أساسها دُعِي إلى عقد دورة استثنائية للبرلمان من أجل تمرير مشروع القانون الإطار، لكن اعتراض حركة التوحيد والإصلاح، ثم عبد الإله بنكيران، خلط أوراق الجميع، ودفع قيادة «البيجيدي» إلى التريث، والمطالبة بالاحتفاظ بالصيغة التي توافق ما جاء في الرؤية الاستراتيجية أول مرة. اليوم نحن أمام ثلاثة مواقف؛ موقف «البيجيدي» الذي يصر على العودة إلى ما جاء في الرؤية الاستراتيجية، وموقف حزب الاستقلال الذي شعر بأنه خارج اللعبة، فصعد الجبل مطالبا بتفعيل الفصل 103 من الدستور، أي طرح مسألة الثقة في الحكومة، وموقف بقية الأحزاب التي تزعم أن «الفوق» يريد تمرير مشروع القانون كما هو، أي فرنسة التعليم. ووسط كل ذلك، هناك الكثير من التضليل السياسي، والقليل من استقلالية القرار الحزبي، وذلك هو المسكوت عنه في كل هذه القصة.