كنّا نعتقد أنه سيخجل من نفسه، بعدما جر أربعة صحافيين وبرلمانيا إلى محاكمة غريبة، كلفتهم ستة أشهر موقوفة التنفيذ وغرامة 10000 درهم. كنّا نعتقد أنه سيتوارى عن الأضواء، أو على الأقل أن يعتذر بعدما جلب العار لنفسه ولحزبه، الذي يدعي الحداثة، وبعدما جعل البلاد عرضة للانتقاد في الإعلام الدولي ومن لدن المنظمات الدولية، لكنه، كعادته، «خرّج عينيه»، ونظم ندوة صحافية ليدافع عما اقترفه، بل تظاهر بأنه ضحية جهات تريد تصفية الحسابات السياسية معه، وتريد طمس الحقيقة. غريب أمر حكيم بنشماش، رئيس مجلس المستشارين والأمين العام «المنبوذ» لحزب الأصالة والمعاصرة. في البداية كان يقول إنه لم يضع شكاية ضد الصحافيين، وعندما نشرنا الشكاية كاملة، وقد كتب عليها عبارة «سري»، ظنا منه أنها ستبقى سرية، بدأ يقول إنها «ليست شكاية ضد الصحافيين بالمعنى المعروف للشكاية». تارة، حاول إلقاء المسؤولية على مصطفى الرميد، وزير العدل السابق الذي كان رئيس النيابة العامة، متسائلا: «ألم يكن بإمكانه حفظ الملف؟»، وتارة أخرى حمل المسؤولية للفرق والمجموعات البرلمانية التي «وقعت» على تقرير زميله في الحزب، رئيس لجنة تقصي الحقائق، حول الصندوق المغربي للتقاعد، بشأن تسريب معلومات عن جلسة الاستماع إلى بنكيران، وأن دوره كان «مجرد ساعي بريد»، لم يكن بإمكانه التراجع لأن القانون يلزمه بوضع الشكاية. وهذا كله كذب وتدليس وتغطية على فضيحة تورطه، بصفته قياديا حزبيا و«منتخبا»، في التضييق على حرية الصحافة، وجر الصحافيين إلى المحاكم، وهو سلوك لم يسبقه إليه أحد. لأسباب تافهة، جُر الصحافيون إلى المحاكمة؛ معلومات بسيطة نُشرت بحسن نية من أجل إخبار الجمهور بجلسة تتعلق بصندوق التقاعد الذي يهم آلاف الموظفين، حولها بنشماش، رئيس مجلس المستشارين، وزميله في الحزب، عزيز بنعزوز، إلى قضية، وخاضا من أجلها معركة «دنكيشوتية»، لماذا؟ فقط لأن بنشماش كان يريد توريط رئيس الحكومة السابق بنكيران، وهذا ما لم يقله في ندوته الصحافية، وقد كان عليه أن يتحلى بالشجاعة ويقول ذلك. لقد ذهب عزيز بنعزوز، رئيس اللجنة، إلى الفرقة الوطنية للشرطة، وقال لهم في محضر: «لا أشك في تورط أي عضو من أعضاء لجنة التقصي في التسريب، لكني أشك في شخص واحد كان مرافقا لبنكيران»، لكن التحقيقات عرفت اتجاها آخر. هل كان بإمكان وزير العدل السابق حفظ الملف، وهو يعرف أن هدف المتابعة هو قائده في الحزب بنكيران؟ لو فعل ذلك كيف سيكون رد بنشماش؟ «الرميد يتستر على بنكيران». ولماذا لم يحفظ وزراء العدل السابقون، رؤساء النيابة العامة، شكايات الوزراء ضد الصحافيين؟ لماذا لم تحفظ النيابة العامة الملف؟ هذا السؤال مطروح فعلا، لكنه لا ينفي تورط بنشماش. أما بخصوص قوله إنه تلقى توقيعات جميع الفرق قبل وضع الشكاية، وإن القانون يلزمه بوضعها، فهذا غير صحيح. القانون التنظيمي واضح في أن النيابة العامة تحرك المتابعة بناء على شرطين مجتمعين؛ الأول تقرير رئيس اللجنة بنعزوز، والثاني شكاية رئيس المجلس. كان بإمكان بنشماش عدم وضع الشكاية، وكان بإمكانه جمع مكتب مجلس المستشارين، لاستشارته، لكنه لم يفعل ذلك، لأنه كان متحمسا لتوريط بنكيران. أما توقيعات الفرق، فلا ينص عليها القانون. عندما وجهت النيابة العامة التهم إلى الصحافيين الأربعة وإلى البرلماني عبد الحق حيسان، حاول عبد لله البقالي، رئيس النقابة الوطنية للصحافة، التوسط لإيجاد مخرج. كان يعتقد أنه يتعامل مع شخص مسؤول عن أفعاله، لذلك، التقى بنشماش، وعرض عليه إيجاد حل ينقذ ماء وجهه، ويجنب محاكمة الصحافيين التي تمس بصورة البلد، من خلال التنازل عن شكايته، فوافق بنشماش، وأصدرت النقابة بلاغا أعلنت فيه هذا الاتفاق، ولم يكذب بنشماش البلاغ، وسعت النقابة إلى تهييء الأجواء لكي يقدم بنشماش تنازلا مكتوبا موجها إلى المحكمة. وخلال أطوار الجلسات، طلب الدفاع من المحكمة تأجيل المحاكمة إلى حين تقديم التنازل، فوافقت المحكمة على التأجيل، وتفاعلت النيابة العامة إيجابيا، كما راسلت فرق برلمانية، بما فيها فريق البام، رئيس المجلس تحثه على التنازل، لكن الصحافيين، ومعهم نقابة الصحافة، انتظروا هذا التنازل دون جدوى، بل إن بنشماش اختفى، وتبين أنه لا يملك قراره. وقبيل جلسة النطق بالحكم، روج ديوانه في أوساط إعلامية أنه وجد مخرجا قانونيا لتجنب الحكم على الصحافيين، لكن تبين من جديد أنه يناور. وبقي الأمل معقودا على المحكمة لتنتصر لحرية الصحافة وللحق في الحصول على المعلومة، لكن، وقعت الإدانة المؤسفة.. هذه هي الحقيقة التي لم يقلها بنشماش، في انتظار مرحلة الاستئناف.