انتقدت جماعة العدل والإحسان الدخول الاجتماعي والسياسي الذي يشهده المغرب، واصفة إياه ب«الحارق». ما دوافع هذا الموقف؟ إنما اللغة لتوصيف الوضعية، والغرض من استعمال كلمة “حارق” أو غيرها التعبيرُ عن حالةٍ وواقعٍ، ربما هو أفدحُ مما نتصوّر جميعا. إن المغرب يعيش وضعية متأزمة، لا يمكن أن يغمض عينه عنها إلا من يعيش حالة انفصال تامة عن الواقع، أو حالة إنكار. دع عنك كلام المعارضين والمنتقدين على وجاهته، وانظر في التقارير الرسمية، وبغضّ النظر عن كل الملاحظات بشأنها، فهي تخبرك بأننا في وضع غير مريح تماما. بل حتى عبارة “غير مريح” ربما لا تعبّر عما هو حاصل، لكنها تشير إلى أن ما ينتظرنا مستقبلا يحتاج مجهودا كبيرا لإصلاح ما تم إفساده على امتداد عقود، وفي جزء كبير منه عن “سبق إصرار وترصّد”. إننا لا نعيش لا دخولا ولا خروجا سياسيا. نحن في المغرب نعيش حالة استمرار واستغراق في الأزمة، وما يجري، في كل مرة، هو محاولة تدوير الأزمات لا حلّها، وعنوان ذلك شعور عام بأن الدولة دخلت في حالة من الفشل المزمن في تدبير مصالح الناس، ما أفقد قطاعا واسعا من المواطنين الثقة في إمكانية معالجة المشاكل المتراكمة، وجعلهم أكثر تشددا في مخاطبة القائمين بالسلطة. ألا تعتقد أنه بهذا النوع من الخطاب السياسي تتسببون في اصطدام المواطنين بالسلطات وفتح المغرب على احتمالات مجهولة؟ لسنا هواة تأزيم، مثلما أن “المغامرة السياسية” ليست من منهجنا، كما ليس من نهجنا التأجيج والتحريض. نحن تنظيم يحمل مشروعا مجتمعيا يعرضه على المغاربة، لهم أن يقبلوه أو يرفضوه، وعملنا يتّسم بالسلمية، فمنذ اليوم الأول أعلنا رفضنا للعنف، وللسرية، وللعمالة للخارج ضد مصالح بلدنا. ثم إن من يراهن على استمرار سكوت المواطنين على الظلم واهم، ومن يحاول قمع إراداتهم للتغيير باستدعاء “نماذج الخراب”، عبر التهديد بسورية وغيرها، وبالمنّ على الناس بالاستقرار المُتوهَّم، يكذب على نفسه وعلى المواطنين. لا يجب أن نغالط المغاربة بأن نحصر تفكيرهم بين العيش في الظلم، أو بين العيش في الخراب. ربما هناك احتمالات أخرى وسياقات غير الحالة التي عليها المغرب، وأيضا غير “الحالة البعبع” التي يجري التخويف بها. أظن أن هذا النوع من الخطاب ربما هو ما تعتبره الدولة خطابا عدميا وتيئيسيا تتسببون فيه؟ أن نصِف ما يجري بالوضعية “الحارقة” أو أن نقول كلاما آخر لا يغيّر من الواقع الجاثم على الصدور شيئا، ومقياس تلمّس حقيقة هذا الواقع يبدأ من الاستماع لبسطاء الوطن. العدمية هي مغالطة الناس، والكذب عليهم بالوعود، وبعد ذلك الفشل في تنفيذ تلك الوعود، ثم قمعهم حينما يحتجون على هذا الفشل. والتيئيس صار علامة مسجلة باسم من يديرون شؤون البلد. هل تعتقد أن كلمة أو موقفا من هناك وهناك سيدفع الناس إلى اليأس أكثر من استيقاظ شبابهم على البطالة والحرمان؟ وهل من شيء أكثر دفعا لليأس من فشل فاضح في إصلاح التعليم؟ وهل من أمر أكثر تيئيسا من أوضاع مستشفيات لا تقدم أي علاج؟ وهل هناك شيء أكثر تيئيسا من أن يشعر الشباب المغربي بنفسه غريبا عن وطنه حين لا ينال فرصته لتحقيق ذاته، وحين تختل الموازين لصالح المحسوبية والزبونية والولاءات على حساب الكفاءة والنزاهة؟. الحقيقة أن السلطة لم تعد تجد ما تجيب به عن انشغالات شبيبة مغربية صارت تطالب أكثر، وأصبحت أكثر وعيا، إلا توزيع الاتهامات بالعدمية وإشاعة التيئيس، والقمع والمحاكمات والسجون، وهذا دليل على أنها تقترب من استنفاد كل المُمكنات في المناورة والمراوغة، فلا يبقى أمامها إلا طيّ صفحات الماضي المليئة بالتدليس والفساد، والاتجاه للمستقبل بنيّة صادقة للإصلاح، وفق استراتيجيات مؤسَّسة على توافق مجتمعي واسع لإحداث التغيير، أو أن النظام سيجد نفسه فقد كل إمكانية للمبادرة، أو حتى الضبط، وسيضطر للتعامل مع وضعيات لا يرغب فيها رغم تحمله المسؤولية عنها، كما لا يرغب فيها أي وطني صادق، لكنها ستعبّر بالقطع عن رغبة مجتمعية للقطع مع هذا العبث تتهم شبيبة العدل والإحسان الدولة ب»عدم اكتراثها وضعف تجاوبها مع مطالب الشباب، وتشبثها بالمقاربة الأمنية».. لماذا تصرون على هذا التصعيد وأنتم متهمون بتأجيج الأوضاع السياسية؟ نحن في العدل والإحسان لا نصرّ على شيء لا يحتاج إصرارا منّا، ولا نصعّد في أي اتجاه، ولا نسعى إلى أي تأجيج للأوضاع، بل في أدبياتنا نتحدث عن “رفق القومة”، لأننا ندرك أنه لا خير في العنف والتشدد. لكننا نشخّص الواقع الذي يعرفه ويعيشه قطاع واسع من شعبنا، ونشهد بالحق في وقت اختار كثيرون الصمت أو التواطؤ. حالة الإنكار لا تفيد أمام ما نراه يوميا من “تحلّل” على مستوى تدبير الدولة. تحلّل من كل شيء: من الالتزامات والوعود المقطوعة للشعب، وتحلّل من الضوابط القانونية، ما أنتج مثلا حالة تسيّب في “استعمال العنف” في مواجهة مطالب الشعب، وحراك الريف نموذجا. وأيضا هناك تحلّلٌ على صعيد القيم، بدأ من نظام الحكم، وأصاب جزءا من الشعب، عنوانه الفساد بكل أوجهه، والذي تسبّب في وجود حالة عدمِ اعتبارٍ لفكرة المسؤولية أمام المواطنين. الناس لا يرون تعاملا مسؤولا من حكامهم، فيتخلون بدورهم عن كل مسؤولية يمكن أن ينهضوا بها تجاه مجتمعهم، أو ما يمكن أن نعبر عنه ب”شبه استقالة للدولة” في أداء وظائفها، أدت بالتبعيّة إلى حالة لامبالاة شبه عامة. ثم إن الأوطان لا تبنى بالتسويف، ولا تبنى بالوعود الكاذبة، ولا بمحاولة تزييف الحقائق. لذلك عندما نتحدث عن “ضعف تجاوب الدولة مع مطالب الشباب، وتشبثها بالمقاربة الأمنية”، فنحن نساهم في مقاربة الحقيقة، لضمان فعالية أكبر في التعامل معها. ولكن التقدير السياسي للجماعة حادٌ ولا يعترف بأي منجز للدولة. تعارضون لأجل المعارضة وفقط؟ نصف العلاج تشخيص دقيق للحالة، والخطأ في التشخيص قد يؤدي إلى موت المريض. وفي المغرب نعيش حالة فشل واضحة، صارت أعلى سلطة في البلاد تجد نفسها مضطرة للاعتراف بها، لأن إنكار الواقع سيجعلها في حالة مفارقة له. لكن المواطن لا ينتظر من حكامه الحقيقيين، أو من “لوزام الديمقراطية المغشوشة”، طرح الأسئلة كما يطرحها عموم الناس. المواطنون ينتظرون من المسؤولين والماسكين بزمام الأمور أجوبة ومقترحات تُطرح للتداول العام، ويريدون كفاءةً ومسؤوليةً، ومحاسبةً لكل مقصّر عن أداء مهامه وليس أكباش فداء عند كل ورطة. أما الاستمرار في تدبير شؤون الناس بمرْكَزة القرار في يد واحد، ثم التساؤل مع المتسائلين عن حالة الوطن وعن الثروة و”عن الشيء الذي ينقصنا”، فلا يستقيم، ولا يؤدي إلا إلى مزيد من تعقيد الأمور وجعلها أكثر ضبابية وإرباكا. الجماعة تمارس المعارضة بأقصى درجات المسؤولية، وتقوم بواجبها في الإضاءة على مكامن الفساد والاستبداد، وتحمّل المسؤولية لمن يجب أن يتحملها، في التزام بالقيم المؤطرة لخطها السياسي. لا نراوغ ولا نخفي مواقفنا. واضحون إلى أبعد الحدود، ولأجل ذلك يجري التضييق علينا وحرماننا من أبسط مقومات الوجود السياسي. ألا تعتقدون أن دعواتكم المتكررة لتعزيز الجبهة الداخلية ب»حوار جدي من دون الارتهان للأجندات الخارجية» فشلت، إذ لم تتجاوب معكم القوى السياسية؟ الجماعة تنظيم وازن، ولها حضورها وتأثيرها. ومن منطلق وزنها تبادر لإطلاق مبادرات سياسية بأفق وطني، وبدوافع المصلحة العامة، وبعيدا عن المزايدة السياسوية. الجماعة لا تملّ من الدعوة إلى جبهة مجتمعية، تناقش مستقبل البلد بالنظر إلى الوضعية الراهنة، وتنتهي إلى وثيقة مبادئ عامة ملزمة للجميع، تضمن أجواء الحرية والتنافس السياسي الحقيقي، وتكون أكثر تعبيرا عن حقيقة المجتمع وتنوعه، وتساهم في التأسيس لانعطافة تضعنا على سكة التغيير الحقيقي، المسنود بزخم شعبي. الدعوة إلى الجبهة المجتمعية أو الوطنية، أو ما شئت، مؤسسة على قناعة أن الحوار أقصرُ الطرق لحل المشاكل وتبديد الشكوك وتقريب وجهات النظر، كما أنه اختصار للوقت واقتصاد في الجهد. لا نُلام على عدم التجاوب معنا أو التجاوب بشكل محدود، بل يُلام من لا يريد أن يرى أية وجاهة في مبادرتنا ويقبل دور التدليس على الشعب بالمشاركة في العبث، أو من يرى جدوى لمبادرتنا ولا يتجاوب معها. لكننا على كل حال ندرك أن الواقع معقّد، وأنه سيجري، اليوم أو غدا، استيعاب حقيقة دعوتنا، وأبعادها الوطنية، وأنها إحدى الضمانات الجديّة لمنع الاستبداد مستقبلا، أيا كان نوع هذا الاستبداد. ألا تعتقد بأنه على الرغم من إطلاق مجموعة من المبادرات لم تستطيعوا أن تخرجوا من عزلتكم السياسية، بل ما زلتم تصرّون على تحليل الواقع وفق إطار رسمه لكم الشيخ عبد السلام ياسين؟ المعزول من عزله الشعب، أو من عزل نفسه عن الشعب. لا نعيش لا عزلة سياسية ولا غير سياسية. نحن نقوم بعملنا وفق ما نؤمن به، وبحسب ما نخططه لأنفسنا، والسياسة جزء من مشاغلنا، وعلمنا غير مسقوف بولاية تشريعية أو انتخابات. عملنا يروم تغييرا عميقا، وإنجازَ تحولات حقيقية، تتجاوز الحسابات السياسية الظرفية إلى آفاق أرحب مرتبطة بحقيقة وجود الإنسان ومصيره بعد الموت، وهذا من صميم اهتمامات الإمام ياسين رحمه لله. هل تشعرون في الجماعة بأي فراغ خلّفه الشيخ ياسين بعد سنوات على وفاته؟ رحم لله الإمام ياسين. كان شخصية استثنائية، بحضور لا يعوّض نهائيا، فضلا عن أنه بالنسبة إلينا يتجاوز القيادة السياسية إلى حقيقة أنه كان مرشدا مربيّا، وعالما ربّانيا. لكن، ولله الحمد، في حياته كان يصرّ على بناء الجماعة وترسيخ الشورى في مؤسساتها، وحينما توفاه الله ظهرت للجميع ثمار حرصه على بنائها على أسس ناظمة لفعلها، وجامعة لأعضائها، تتجاوز حضور الأفراد، على أهميتهم، لصالح الفعل الجماعي. لفت نظري أن أحد المداخل لتجاوز هذه الوضعية «المحرجة والمقلقة»، بحسب وصفكم، يتمثل في «زرع الأمل في الشباب بعيدا عن سياسة الإلهاء»، وهذا يتقاطع مع مضمون خطاب ملكي يدعو فيه لبث الأمل في الشباب. هل هذا تحول في مواقفكم ومحاولة لتليينها؟ ندرك جيدا أنه ببقاء الأمل لدى الشباب سنبقى نأمل في وطن آخر ممكن. وعندما تتبدّد كل الآمال سيتحول الشباب إلى مسارات تدميرية وغير محسوبة العواقب، لا أحد سيكون خلالها مستفيدا، بل سنؤدي جميعا فاتورتها من رصيدنا الجماعي. خطاب الدولة الرسمي مسؤوليته أن يشيع الأمل من خلال سياسيات واضحة ومؤثرة وذات جدوى، وليس توزيع الشعارات والتماهي مع خطاب المعارضة. ثم إننا حينما نؤكد على الابتعاد عن “سياسة الإلهاء” نميّز بين الفعل المجتمعي الذي يجب أن يكون واضحا وحازما، لكنه يشيع الأمل في الشباب المغربي في مغرب أفضل إن تظافرات الجهود، وبين خطاب رسمي لا معنى له إلا إن كان مرتبطا، على وجه اللزوم، بسياسات عمومية ذات جدوى. تصفون مشروع القانون المتعلق بالتجنيد الإجباري ب«المحاولة اليائسة والجديدة للالتفاف على النضال الشبابي». ما هي الأسباب والسياقات التي دفعتكم لاتخاذ هذا الموقف؟ لنتفق على أن الكثير من الإجراءات التي تتخذ في المغرب، والمرتبطة أساسا بالشباب، تفتقد للالتقائية والاندماج، ما يتسبّب في ضعف المردودية والجدوى. كما أنه في كثير من المرات تطرح إجراءات كجواب خاطئ عن وضعيات غير مدروسة بشكل جيد. المشروع المذكور من حيث المبدأ يمكن أن يناقش في سياقات أخرى على نحو إيجابي، ولا يلقى اعتراضات، لكن بالنظر إلى حالة التأزم التي يعيشها البلد، والانفلات الأمني، وعقد المحاكمات للنشطاء، والفشل في منظومة التعليم، والبطالة المتفشية، سينظر إليه على أنه إجراء تحيط به الكثير من الشبهات، لأنه جاء مفاجئا وغير مسبوق ومؤطّر بأي نقاش مجتمعي، كما لم تعرف الأهداف منه. هذا بالضبط ما يجعل إجراءات الدولة مفتقدة للمصداقية، وتحيط بها الشكوك، لأنها لم تعوّد الشباب على الإشراك في القضايا التي تعنيهم. يتصورون أن القضية مجرد قرارات فوقية وستسير الأمور بشكل جيد. ألا ترى بأن منظوركم ل«جبهة مجتمعية» كلام عام وفضفاض، خصوصا وأنكم توجدون خارج اللعبة السياسية؟ العدل والإحسان توجد في قلب المعادلات السياسية، ونميّز جيدا بين المشاركة السياسية، بمعناها الانتخابي إن شئنا القول، وبين الفعل السياسي. عمل الجماعة هادئ، لكنه عميق ومؤسِّس. عندما تقتنع الأطراف الأخرى في المجتمع بهذه الفكرة، وتؤمن أن فيها خلاصا للجميع، يكون لكل حادث حديث، وسنعرض بالتفصيل حينها كل ما لدينا للنقاش العمومي. ثم إننا لو قدمنا كل التفاصيل الإجرائية بشأن تصوراتنا في هذا الموضوع، وحاولنا الإلزام بها، لما كان من معنى للدعوة إلى الحوار. الدعوة إلى جبهة مجتمعية هي دفع في اتجاه مقاومة سياسات التخريب، ومساهمة لوقف النزيف، لأن المستقبل لن يرحم أحدا.