البريوات» و«البغرير» و«الغريبة» بعض من مفردات الدارجة التي وردت في مقرر دراسي لهذه السنة، والتي أثارت سجالا واسعا في الأوساط التربوية والمغربية عموما، وردود فعل على مواقع التواصل الاجتماعي، تراوحت بين مرحب بها ورافض إياها. فأما المرحبون، فاعتبروا الخطوة محاولة لتقريب الطفل من هويته وتراثه واستقباله في المدرسة باللغة التي ألف الحديث بها، وهي «الدارجة»، وإعادة ربط التلميذ بمحيطه السوسيوثقافي، فيما يرى رافضو الفكرة أنها «كارثة» حقيقية تعمق أزمة التعليم في المغرب، ومخطط فرانكفوني يهدف إلى قطع أواصر الانتماء القومي والعربي للمغرب بضرب اللغة العربية. «نشر للتخلف وتسطيح للوعي» «الآن تبين أن الأمر لم يكن مجرد كلام، بل هو مخطط وجد طريقه إلى التنفيذ والتنزيل العملي»، يقول فؤاد بوعلي، رئيس المرصد الوطني للغة العربية، في تعليق له على الموضوع، حيث وصف الخطوة ب«كارثة» حقيقية تستهدف النظام التعليمي المغربي، ومحاولة لنشر التخلف وتسطيح وعي التلميذ، موجها أصابع الاتهام إلى اللوبي الفرانكفوني الذي يحاول «فرض العامية واللهجة المغربية بغرض قطع أواصر الانتماء العربي للمغرب، وفرض منظومة قيمية مغايرة للمنظومة القيمية العربية للمغاربة، والحفاظ على هيمنة اللغة الفرنسية، في خرق واضح للدستور وللقيم الوطنية»، ونتيجة مثل هذه الخطوة، في نظر بوعلي، هو نشر وعي مزيف سيجعل من المدرسة المغربية «مدرسة تخلف وتراجع عن كل الثوابت والتطور العلمي». وحول المشكل الذي يمكن أن يطرحه توظيف مفردات من العامية في المقرر الدراسي باعتبارها جزءا من الهوية الوطنية للمغاربة، قال بوعلي: «إن المشكل لا يكمن في الدارجة بعينها، فهي أيضا جزء من الهوية الوطنية وهي عامية العربية»، لكن المشكل يكمن، حسبه، في كون اللهجة المغربية ليست لغة تعليم ولا لغة خطاب رسمي، ووظيفتها تقتصر في ما هو شفوي فقط، «فالقضية ليست قضية لغات، بل هو صراع مع لغات متعددة لفرض نموذج تلهيجي»، يوضح بوعلي، معتبرا أنهم «يوظفون الدارجة في المقررات ليس حبا في هذه اللهجة، بل غايتهم تكمن في نشر التخلف، وجعل التلميذ المغربي مجرد كائن لا مستقبل له ولا أفق أمامه». استقبال التلميذ بلغته من جهته، اعتبر الكاتب والناشط الأمازيغي، أحمد عصيد، أن منتقدي الفكرة «مؤدلجون»، ولا يهمهم الواقع ولا مردودية التعليم المغربي، وأن همهم الأساس يكمن في سيادة إيديولوجيتهم، مستغربا اعتبار الدارجة كما لو أنها أجنبية عن المغاربة، علما أن 90 في المائة منهم يتحدث بها. وفي معرض رده على الطرح القائل بمس الهوية الوطنية، قال عصيد ل«أخبار اليوم»: «يجب على أصحاب هذا الطرح أن يحددوا أولا معنى الوطنية، فاللغة العربية التي يدافعون عنها موجودة في السعودية وفي سوريا وفي ومصر وفي غيرها من البلدان، فيما الدارجة والأمازيغية موجودتان في المغرب فقط». وفي تعليق له على توظيف العامية في التعليم الأولي، اعتبر الأمر تطبيقا لمبدأ استقبال الطفل باللغة الأم الذي نادت به اليونسكو، وهي فكرة سليمة لتمكين التلميذ من مد الجسور مع الأسرة والمجتمع والمدرسة، حتى لا تصبح الأخيرة غريبة عن العالم الذي يعيش فيه، وحتى لا يحدث للطفل اضطراب لساني بسبب الانتقال من لغته اليومية إلى لغات غريبة عن وسطه، «كالفصحى أو الفرنسية، وهو ما ينطبق على الأمازيغية أيضا، إذ إن الطفل الناطق بالأمازيغية يفترض أن يجد لغته الأم في المدرسة، وبعدها يمهد له تلقي اللغات الأخرى». الناشط الأمازيغي أعتبر أنه منذ أن جرى تعريب التعليم وقع انهيار في النظام التربوي، «فما الذي يقوم به آلاف الخريجين المكونين بالتعليم المغربي؟ لمَ يصلحون؟ لا بد من وضع تقييم شامل لحصيلة تعريب التعليم الذي كان كارثة على المغرب». وبخصوص دور اللوبي الفرنسي في هذا الإطار، كما يرى البعض، قال عصيد إن الفرنسية بالمغرب مرتبطة برهانات الدول الفرانكفونية في البلاد، فمصالح فرنسا في المغرب رهينة بوضعية اللغة الفرنسية فيه، وطالب بإعادة تدريس العلوم بلغة موليير بعد مرحلة «التعريب التي أتت على جيل بكامله». وختم عصيد بالقول: «إن الدارجة حل واقعي، لأنها اللغة التي يستعملها التلميذ في حياته اليومية ويتكلم بها، عوض تدريسه أشياء باللغة العربية لا تمت إلى الواقع بصلة»، مبرزا أنه لا يمكن أية لغة أن تقوم بجميع الوظائف في المغرب، فكل لغة لها وظائف محددة يجب الاعتراف بها والعمل على تحديدها. «القضاء على المدرسة العمومية» من جانبه، يرى الإطار التربوي المتقاعد، محمد بوبكري، أن توظيف العامية في المقرر الدراسي الهدف منه هو «دفع الأسر المغربية إلى ترك التعليم العمومي، وإفراغ المدرسة العمومية»، فالدارجة، في اعتقاده، هي «دارجات» في المغرب، وطابعها الفلكلوري لا يمكن أن يرقى إلى مستوى تدريس الآداب والفنون والعلوم، ولا يمكن أن تكون لغة نخبة، «والتدريس بها ما هو إلا تعميق للفقر المعرفي والقيمي والثقافي». وحسب وجهة نظر بوبكري، فالخطوة محاولة لإكراه الأسر المغربية على التوجه نحو التعليم الخصوصي باستغلال خوفهم على مستقبل أبنائهم في المدارس العمومية «متدنية الجودة»، إذ هنالك، حسب بوبكري، جهات داخلية وخارجية تروج فكرة ضرورة تخلص الدولة من الكلفة المالية للتعليم، ما يدفعها إلى محاولة خوصصته، والتوقف عن استمراره خدمة عمومية، وبما أنه يصعب على الدولة إعلان ذلك بشكل مباشر، مخافة رد فعل المجتمع، تلجأ إلى هذه الطرق «التي تجعل المغاربة يكرهون المدرسة العمومية، فيختارون التوجه مرغمين إلى التعليم الخصوصي، فالهدف، في الأخير، إيديولوجي محض يرمي إلى القضاء على المدرسة العمومية». الوزارة: لا نية مبيتة ل«تدريج» التعليم من جهته، أوضح مدير المناهج بوزارة التربية الوطنية والتعليم العالي، فؤاد شفيقي، أن ما جرى تداوله من كلمات يعود إلى نص مكتوب باللغة العربية حول موضوع حفل عقيقة استعملت فيه مفردات بالعامية، لأنها لا تتوفر على مقابل في اللغة العربية الفصحى، مثل «شربيل» و«بلغة»، وبعض أسماء الحلويات منها «غريبة» و«البريوات» و«البغرير»، وهي كلمات لها أصول في اللغة العربية، حسب شفيقي، استنادا إلى ما أكده خبراء في اللسانيات. فأصل كلمة «بريوات» في الفصحى هو كلمة «البراءة»، وهي رسالة مطوية على شكل مثلث كان يرسلها السلاطين إلى موظفي الدولة غداة تعيينهم في المناصب، قبل أن تعمم لتطلق على الرسائل الإدارية بصورة عامة، حسب ما أكده شفيقي، أما كلمة «بغرير» أو بغارير»، كما جاء في كتاب المستدرك على المعاجم العربية، فجاءت من فعل «بغر- بغورا» ويطلق على شكل الأرض بعد تساقط زخات مطرية، «فكذلك البغرير يكون مليئا بالثقب ويشبه الأرض بعد تساقط زخات المطر»، وبالتالي، «فالاستعمال المجازي هنا واضح للعيان»، يقول المسؤول عن المناهج. أما مفهوم كلمة «الغريبة»، فالكلمة في الأصل تصغير لكلمة «الغريبة»، وتطلق في بعض المناطق المغربية على «الحلوة البهلاء»، حيث وقع هنا تعويض «البلهاء» ب«البهلاء»، وسميت بذلك «لأنها تتفتت بسرعة في يد من يتناولها». وتجد هذه المصطلحات مبررات توظيفها، حسب شفيقي، في كون أسماء بعض الأكلات في عالمنا العربي إما أسماء عربية أو أسماء دخيلة من لغات أخرى دخلت المعاجم العربية المعاصرة، مثل «الكفتة» و«الكباب» و«البسطيلة» وغيرها. ودافع المسؤول الوزاري عن فكرة توظيف بعض كلمات الدارجة في المقررات الدراسية، والتي ستمكن التلميذ، حسبه، من المواكبة والاندماج بسهولة مع محيطه المدرسي، «عوض اعتماد مفردات مشرقية بعيدة عن ثقافته». أما في ما يتعلق بالوثيقة الثانية التي تحتوي على أنشودة مكتوبة بالعامية وبأحرف لاتينية، نفى شفيقي أن يكون مقررا دراسيا مصادقا عليه من طرف وزارته، واضعا احتمال أن يكون المقرر لدولة أوروبية نشر فيها لصالح الجالية المغربية، «علما أنه لم يقع بعد التأكد من مصدره»، يؤكد شفيقي، مضيفا: «من المؤسف أن يقتصر الدخول المدرسي فقط على هذا السجال حول بضعة مفردات بالعامية، فيما هنالك تغييرات عميقة كانت الأجدر بأن يسلط عليها الضوء بعد أربع سنوات من العمل، بالكاد بدأنا نجني ثمارها»، نافيا بشكل قطعي أن تكون هنالك أي نية مبيتة من طرف الوزارة للاتجاه نحو تعميم العامية في التعليم أو إدراجها لغة في المناهج التعليمية، ودعا شفيقي إلى «التركيز عن المعقول والإصلاحات التي قام بها الفاعلون في القطاع، وبحث النواقص التي يمكن تداركها».