ربما لم يكن عبد العلي حامي الدين يتوقع أن تثير تصريحاته حول مطلب الملكية البرلمانية كل الجدل الذي حدث ويحدث، وربما لم يسع إلى ذلك، مادام أن الحوار في حزب العدالة والتنمية كان داخليا، لكنه استطاع، على أي حال، أن يفجّر نقاشا بدا وكأنه مكبوت لدى نخب معينة، مثلما بدا وكأن هناك من يتخوف من نقاش سياسي كهذا، فتقدم الصفوف منافحا عن الملكية، مهاجما حامي الدين، وكأن النقاش حول الملكية البرلمانية جديد، أو كأن الملكية تخشى نقاشا يطالب بإصلاحها، وهي التي عوّدت الجميع على المفاجأة بشكل يتجاوز انتظارات النخب التقليدية المحيطة بها، والتي ابتُلي بها المغاربة، للأسف الشديد. لقد ذكّرتنا ردود الفعل المنفعلة والسياسوية ضد تصريحات حامي الدين من قبل إعلاميين وسياسيين، بقرار السلطات منع ندوة «طفرة» السنة الماضية حول الملكيات البرلمانية في أوربا، فبدا أن الطرفين معا لا يريدان نقاشا هنا والآن حول الملكية البرلمانية، كما لو أنها «طابو سياسي جديد»، علما أنه نقاش قديم، وقد خاض فيه الجميع بقوة عشية احتجاجات حركة 20 فبراير سنة 2011. لماذا أزعج حامي الدين خصومه؟ أولا، لأن هناك أزمة سياسية واجتماعية تمر منها البلاد، سببها الرئيس سياق إعفاء رئيس الحكومة السابق، عبد الإله بنكيران، وهي أزمة تبدو دون مخرج في الأفق، وقد تطول أكثر، لأن صانعي القرار يرون في القلق العام في صفوف النخب والمجتمع مجرد تعبير عن الخوف مما يحدث في المحيط الإقليمي من أزمات، وليس نتيجة للانحباس السياسي الداخلي. وثانيا، لأن تصريحات حامي الدين تزامنت مع ذكرى مرور 7 سنوات على وضع دستور 2011، فبدا وكأن مواقف حامي الدين، وهو القيادي في الحزب الذي يترأس الحكومة، بمثابة نعي للإصلاحات التي جاء بها، لأن تلك الإصلاحات -وهذه قناعة لا يتبناها حامي الدين وحده- لم تفلح في وضع حدّ للاختلالات الرئيسة في النسق السياسي، والمتمثلة أساسا في توزيع السلطة، وتوزيع الثروة، وربط المسؤولية بالمحاسبة، وهو ما أكدته الاحتجاجات في حراك الريف وجرادة وغيرهما. لهذه الأسباب، ربما، سعى منتقدو حامي الدين إلى تطويق النقاش حول الملكية البرلمانية، تماشيا مع قناعة جهات في السلطة تعمل منذ 2013 على استرجاع كل ما أعطته الدولة سنة 2011، وقد نجحت في فرض إرادتها على النخب التقليدية في الأحزاب والنقابات وجزء من المجتمع المدني والإعلام، كما تسعى إلى التحكم في النقاش المجتمعي وتوجيهه، ولو من خلال الحؤول دون تبلور قضية مركزية قد تمنح المعنى السياسي للاحتجاجات المتصاعدة في مناطق الهامش. لكن هيهات، فديناميات المجتمعات أكبر من إرادة السلطة، ولو كان التسلط على المجتمع في عصر «الفايسبوك» ينفع في كبح جماحه، وتمييع إرادته، والتشويش على تطلعاته، لنجح نظام زين العابدين بنعلي أو نظام حسني مبارك في ذلك، وهما معا كانا نظامين أمنيين يحصيان، صباح مساء، أنفاس شعبيهما، دون أن يفلحا في توقع ردود فعلهما. من مصلحة أي نظام سياسي أن يعرف نبض المجتمع، وتوجهات الناس، وآراء النخب المهمومة بالإصلاح في ما يُقال ويُنفذ، ومن الأفضل له أن يوفر كافة الضمانات لكي تكون الآراء حرة وصريحة ومباشرة دون لفّ ولا دوران، لأن ذلك يمنحه صورة أقرب عن ديناميات المجتمع، وبالتالي، قدرة على التدخل والتصحيح، أما أن يسلط أتباعه على كل ذوي رأي حرّ، وعلى كل حركة احتجاجية، وأن يخنق الإعلام المستقل، ويقذف بالمنتقدين في السجون، فإن ذلك مما يبعث على الخوف والقلق فعلا، وهو مقدمة لما لا تُحمد عقباه.