عهد الملك الحسن الثاني كان عهد ملكية سلطوية تتزاوج فيها صورة الحاكم مع صورة الإمام، إنه أمير المؤمنين الذي يترسخ في قلب الزمن كسلطة دينية في سياق تنتقد فيه الحركات الإسلامية الناشئة النظام وتدعو إلى قيام »خلافة ثانية«. أما الأحزاب السياسية العلمانية التي كانت في السابق ترفض هذا الجانب من السلطة، وترى فيه علامة على »استبداد قروسطي» بدأت تعترف به بل وتدافع عنه بقوة على أمل ضمان تمدين الحقل السياسي الحزبي. إن هيمنة الملك على الحقل الديني والذي يتوخى عزل القوى السياسية الإسلامية المعارضة يقود بالضرورة إلى تثبيت وتقوية وضع الملك كأمير للمؤمنين. ملك وأمير المؤمنين هما وجهان للملك كما أعاد بناءها الملك الحسن الثاني في مغرب ما بعد الاستعمار، وتتجسد إن رمزيا على مستوى اللباس من خلال ارتداء البزة العسكرية أو اللباس الأوربي من جهة، والجلباب والطربوش (الفاسي) من جهة ثانية، وهنا تكمن خصوصية الملكية المغربية. وهذا الكتاب يحاول تتبع نشأة هذه الملكية كما أعاد الملك الحسن الثاني ابتكارها... المزج بين السياسية والدين طابع يميز الملكية المغربية، وهذا الطابع الديني للملكية بشكل عنصرا رئيسيا لسلطة الملك. وقد أعطى دستور 1962 تم دساتير 1970 و1972 و1992 و1992 و1996 ودستور 2011، أساسا قانونيا عصريا لهذه السلطة بالتأكيد على أن الملك هو أمير المؤمنين لإبراز المصدر الإلهي للسلطة الملكية. والمعارضة العلمانية، التي تنتقد مقتضيات ممارسة السلطة في المغرب، لم تبد في أدبياتها أي اعتراض تجاه هذا الطابع غير الطبيعي الذي يعيد إدماج القانون الإلهي من ضمن آليات سلطة المخزن المتجدد، بل على العكس، كان المزج بين الشكل الملكي للدولة والإسلام منذ زمان موضوع توافق داخل الطبقة السياسية المغربية، بل حتى الحزب الشيوعي المغربي أبدى انتماءه لهذا التوجه بمناسبة محاكمته أمام محكمة الدارالبيضاء سنة 1960، دون أن يمنع ذلك محكمة الرباط من الحكم بحل الحزب بقرار نهائي، حدد آنذاك بوضوح الطابع الديني للسلطة حتى قبل إقرار دستور 1962. هذا الحكم حدد طبيعة السلطة المغربية ووظيفة حامي الدين وجعل من ثنائية الإسلام/الملكية المصدر الأسمى للقانون، وقد أكدت الدساتير اللاحقة (1996,1992,1972,1970,1962) هذا الطابع لاسيما في الفصول 19,6 و23 التي تنص على أن: 1- الإسلام دين الدولة والدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية (الفصل 6). 2- الملك، أمير المؤمنين والممثل الأسمى للأمة ورمز وحدتها وضامن دوام الدولة واستمرارها، وهو حامي حمى الدين والساهر على احترام الدستور ودولة صيانة حقوق وحريات المواطنين والجماعات والهيئات وهو الضامن لاستقلال البلاد وحوزة المملكة في دائرة حدودها الحقة (الفصل 19). 3- شخص الملك مقدس لا تنتهك حرمته (الفصل 23). وقد أكد الدستور الجديد الصادر سنة 2011 هذا الطابع الديني للدولة والملكية، وعزز الريادة الدينية للملك من خلال فصلين: الفصل 3: «الإسلام دين لادولة..» الفصل 41: «الملك، أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين. وبضامن الحرية ممارسة الشؤون الدينية ». ويرأس المجلس العلمي الأعلى الذي يتولى دراسة القضايا التي يعرضها عليه [...] ويمارس الملك الصلاحيات الدينية المتعلقة بإمارة المؤمنين والمخولة له حصريا بمقتضى هذا الفصل، بواسطة ظهائر. والجدل، ليس بخصوص طبيعة هذه السلطة، بل حول مقتضيات ممارستها والصلاحيات التي يمنحها له الدستور، مايزال مطروحا داخل الطبقة السياسية المغربية. ومعطيات الإشكالية كما تم التعبير عنها لأول مرة غداة الاستقلال لاتزال هي نفسها. والإشكالية المطروحة، والمقاومة المتعبة والأسلوب المتبع واللغة المستعملة وأيضا القوى السياسية المتعارضة حول هذا الموضوع، لم تتغير، والنقاش الذي أثارته كل الدساتير التي صدرت في المغرب حتى الآن، يظهر بأن قضية ممارسة السلطة لا تزال محور الإشكالية السياسية في المغرب، هذه القضية كما تطرحها اليوم أحزاب المعارضة اليسارية، لم تتغير لا في العمق ولا في الشكل، مقارنة مع الصيغة التي أعطاها لها زعماء هذه المعارضة في السنوات الأولى للاستقلال، كتب المهدي بن بركة سنة 1957 يقول: «الملوك الأذكياء في القرن 19 وحتى عشية الحماية، كانوا حريصين جدا علي الإصلاحات التي وصلت حد إعداد دستور، والوفاء لهم يقتضي الآن وبحزم بناء دولة عصرية وديمقراطية». و في تصريح نشرته صحيفة لموند بتاريخ 28 ماي 1960. يخص المهدي بن بركة زعيم اليسار المغربي آنذاك إشكالية السلطة بالمغرب كالتالي «لدينا تصورنا للدولة العصرية الديمقراطية والتقدمية، تصور ما فتيء يشكل مثال المنظمات الشعبية السياسية والثقافية التي كان الاستقلال بالنسبة إليها مرحلة ضرورية لبناء مغرب عصري بوضع مؤسسات ديمقراطية والتحول والازدهار الاقتصادي، والانتعاش الاجتماعي والثقافي للشعب المغربي، لكننا نجد أنفسنا أمام تصور آخر، تصور نظام تيوقراطي وفيودالي يميل إلى الإبقاء أو إعادة إحياء البنيات العتيقة للمجتمع التقليدي المغربي من أجل الحفاظ على امتيازات قديمة ومحاصرة مسلسل التطور والتقدم، هذا التصور هو تصور أقلية فيودالية زراعية، تجارية أو دينية التي كانت منخرطة جزئيا مع القوى الشعبية في كفاحها من أجل الاستقلال، تريد الآن تحويل المكاسب السياسية أو الاقتصادية المرتبطة كنظام الحماية لصالحها، وراء ستار الخطاب والإدارة الع+احب هذا الكلام سيؤكد بعد سنتين بخصوص دستور 1962 قائلا: «الدستور كان ثمرة (...) الماسكين بالاستبداد والفيوداليين المتحالفين مع الاستعمار، بغرض الإمساك، بطريقة شرعية، بالسلطة والتحكم في الشعب المغربي (.. جريدة التحرير بتار يخ 7 دجنبر 1962). ويرد أحمد رضا اكديرة المدافع الشرس عن الملكية المغربية، والرجل المحوري داخل النظام، يرد على الانتقادات الموجهة لهذا الدستور بالعبارات التالية:«الدستور هو الماسك بالسلطة، وفي المغرب وحده الملك يملك هذه السلطة العليا. لا قبل الحماية ولا أثناء الحماية ولا بعد الحماية لم تكن سلطة الملك هاته موضوع جدال» (ماروك انفورميسون، نونبر 1962). بعد ثلاثين سنة، وبمناسبة صدور دستور 1992، سيذكر نفس الرجل (رضا أكديرة) مرة أخرى منتقدي الدستور الجديد بهذا التصور كما فعل للدفاع عن دستور 1992 الذي وضع الأسس القانونية العصرية للملكية المغربية. ملكية، كما يؤكد ذلك كلود بالازولي تحتفظ، في عز القرن 20، بوجه أصولها، واستمرارها يرتبط بالتشبث الواجب للمؤمنين بأميرهم، وسلطتها مبنية كدين: ودستور 1962، مهما توخى الحداثة، لم ينس التذكير بها عندما أكد أن الملك هو «أمير المؤمنين» وأنه «الساهر على حماية الإسلام». ونص هذا الدستور في صيغته الأولى يؤكد ريمي لوفو، لم يكن يتضمن عبارة أمير المؤمنين التي يبدو أنها أضيفت خلال النقاش بطلب من الدكتور الخطيب بدعم من علال الفاسي، لإبراز أن السلطة مصدرها إلهي، ولا يمكن أن تصدر فقط عن استفتاء أو صراعات أحزاب، وبإعلان عرض دستور 1962 على موافقة الاقتراع الشعبي. كان ملك المغرب حريصا على التذكير بهذا الطابع الأساسي للملكية المغربية وليؤكد استمرار التقاليد في نفس النظام الجديد الذي سيدشنه إصدار أول دستور. يقول الملك في خطاب ألقاه يوم 18 نونبر 1962" »الدستور الذي بنيته بيدي هو قبل كل شيء تجديد للعهد المقدس الذي ربط دوما بين الشعب والملك، و الذي هو شرط نجاحاتنا«" وهكذا يصبح الإسلام غداة الاستقلال، أهم مصدر لشرعية السلطة السياسية في المغرب، ولكن انطلاقا من بداية سنوات 70 سيستعمل نفس هذا الإسلام من طرف القوى الإسلامية كوسيلة لمعارضة نفس هذه السلطة في ظرفية تميزت بأزمة سياسية حادة. إن التاريخ السياسي للمغرب المعاصر هو تاريخ أزمة، تاريخ تتخلله الانفجارات والقمع. واليسار الذي كان يعارض شكل السلطة واختياراتها، أدى ثمن هذا التاريخ الملتبس، لأنه لكسر هذا اليسار أعلن النظام حربا لا هوادة فيها على جميع مكوناته. كانت تلك مرحلة القمع الشرس والممنهج الذي سمي في ما بعد بمرحلة أوفقير ،وزير الدفاع والرجل القوي في النظام، الذي قتل سنة 1972 عقب فشل محاولة الانقلاب التي كان وراءها ( 16غشت 1972)، وكانت هذه المحاولة الانقلابية الثانية في ظرف سنة بعد محاولة الصخيرات (10يوليوز 1971) التي كان يقف وراءها كذلك أشخاص من محيط الملك من ضمنهم أوفقير نفسه، حسب التحقيق في المحاولة الانقلابية الثانية التي كانت مسؤولية الجنرال أوفقير فيها هذه المرة ثابتة منذ البداية. يقول جون واتربوري في مؤلفه "أمير المؤمنين، الملكية المغربية ونخبتها"،( »قبل الصخيرات« (الانقلاب الفاشل 10 يوليوز 1971) كان النظام قائما بفضل علاقات التبعية بين العاهل وزبنائه..منذ الصخيرات، تباعدت علاقات التبعية، بل وأصبحت رهانات خطيرة. و النتيجة هي أزمة مغربية خالصة، إنذار باللعب بأوراق مكشوفة بين سلطة بدون سلطات، وتهديد بدون وجه محدد، لا يستطيع لا هذا ولا ذاك أن يدعي دعم أي شريحة من الأمة«.