منذ استقلالها عن وزارة العدل في أكتوبر الماضي، وبسبب المحاكمات السياسية التي يتعرض لها معتقلو حراك الريف وصحافيون بينهم حميد المهدوي وتوفيق بوعشرين، اشتد الجدل حول تغول جهاز النيابة العامة، وخصوصا مدى استقلاليته عن مراكز النفوذ الرئيسة، التي قد تستخدم بعض مكونات هذا الجهاز لتصفية حساباتها مع المعارضين. عبد العزيز النويضي، المحامي والحقوقي المعروف، قال: «طالما طالبنا باستقلالية القضاء، بما فيها استقلال النيابة العامة، وإذا كان السيد رئيس النيابة العامة يقول لنا اليوم إنها مستقلة عن أي تأثير سياسي أو إيديولوجي، فإن السؤال الذي يشغلني هو: هل هي مستقلة عن مراكز القرار الرئيسة؟». محمد عبد النباوي، رئيس النيابة العامة، يرى أن الاستقلالية تعني عدم خضوع القضاء، بما فيه جهاز النيابة العامة، لأي تأثير سياسي أو إيديولوجي، حكومي أو برلماني. ويزعم أن هذا التأثير انتهى اليوم، لكنه لا يقدم جوابا عن سؤال النويضي: هل النيابة العامة بمنأى عن تأثير مراكز القرار؟ الإشكال الثاني الذي يطرح هو إمكانية محاسبة هذا الجهاز على الأخطاء التي قد يقع فيها. عبد النباوي يرى أن المجلس الأعلى للسلطة القضائية هو من يقوم بمراقبة ومحاسبة النيابة العامة، وقد يقوم الملك بذلك، كما أن إجراءات النيابة العامة خاضعة لمراقبة قضاة الأحكام. لكن عبد اللطيف وهبي، المحامي والبرلماني عن فريق الأصالة والمعاصرة، اعتبر أن «النيابة العامة، التي لا تعد سلطة دستورية، توسعت حديثا في استقلاليتها، إذ تحاول أن تفرض نوعا من الاستقلالية حتى على المجلس الأعلى للسلطة القضائية». ونبّه وهبي إلى أن «سلوك النيابة العامة يعتبر نوعا من الانحراف القانوني والإداري، وفيه مساس خطير بدور رئيس الدولة. وإضافة إلى هذا كله فيه تجاوز كذلك لدور البرلمان، إذ عقد رئيس النيابة العامة ندوة صحافية قدم فيها تقريره، وتصرف بحرية، ونشر التقرير للعموم، قبل أن يتوصل نواب الأمة بنسخة منه». وإذا كان القانون قد أسند إلى النيابة العامة تنفيذ السياسة الجنائية، فيما أعطى البرلمان صلاحية إعداد ووضع تلك السياسة، فإن عبد اللطيف وهبي يكشف أن البرلمان لم يقم بأي شيء حتى الآن في هذا الشأن، قائلا: «نحن في البرلمان لم نضع سياسة جنائية ولا غيرها». وهو واقع من شأنه أن يؤدي إلى تغول النيابة العامة، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالحقوق والحريات، وبشكل أخص كلما تعلق الأمر بمعارضي السلطة ومنتقديها. عبد الرحيم العلام، أستاذ العلوم السياسية، نبّه إلى هذا الاختلال قائلا: «النيابة العامة لم تتحرك عندما أكد تقرير برلماني أن شركات معينة جنت 17 مليار درهم من الأرباح، أي مارست الإثراء غير المشروع، ولا تتحرك في قضايا فساد تشغل الرأي العام والمجتمع، أو ضد استغلال السلطة، أو ضد تحقير مقررات القضاء، لكنها تتحرك بسرعة كلما تعلق الأمر بنشطاء حقوق الإنسان، وضد نشطاء حراك الريف، وضد الصحافيين المزعجين للسلطة، أمثال بوعشرين». وقد لاحظ أشرف طريبق، منسق لجنة الحقيقة والعدالة للدفاع عن الصحافي بوعشرين، أنه «بفصل النيابة العامة عن وزارة العدل، التي كانت تحاسَب شعبيا على قراراتها في إطار عمل الحكومة، ينتابنا هاجس كبير بشأن ضمانات الجهة التي تشرف على النيابة العامة، والجهة التي ستسهر على توفير استقلالها الفعلي، وكيفية محاسبتها على أخطائها وتقاعسها في القيام بواجباتها على أكمل وجه». لكن عبد النباوي، الوكيل العام للملك بمحكمة النقض، يرفض تهمة التغول التي باتت مقرونة بجهاز النيابة العامة، فحسب وجهة نظره، فإن «رئيس النيابة العامة أصبح دون أنياب، ولا مجال للحديث عن التغول»، إذ «لا يمكنه أن يعاقب القضاة أو يؤدبهم، لأن الوكيل العام لا يترأس المجلس، بل هو عضو فيه ضمن باقي الأعضاء، كما أن هناك ضمانات لاستقلالية القضاء وضعها المجلس الأعلى للسلطة القضائية»، وفق تعبيره. في الوقت الذي تتوالى فيه أحكام قضائية قاسية وصادمة ضد معتقلين في ملفات ذات طبيعة سياسية، مثل معتقلي حراك الريف، يشتد الجدل حول تغول النيابة العامة، وما إذا كان حقيقة أم مجرد خيال، خصوصا أن الوكيل العام للملك بمحكمة النقض، بصفته رئيسا لهذا الجهاز القضائي ذي الطبيعة الأمنية كذلك، يرفض الخضوع لأي مساءلة برلمانية أو سياسية بحجة استقلالية السلطة القضائية. فهل هناك فعلا تغول في تدخل وعمل جهاز النيابة العامة؟ ومن يحاسب هذا الجهاز على الأخطاء التي يقع فيها وتكون على حساب حريات وسكينة المواطنين الذين يؤدون ثمنها الباهظ؟ جهاز فوق المحاسبة في خطوة أثارت جدلا، أقدم محمد عبد النباوي، رئيس النيابة العامة، على إحالة تقرير مؤسسته على مجلس النواب. وقد اعترض على الخطوة المجلس وبعض الفرق البرلمانية التي رأت أن عبد النباوي ليس من حقه إحالة التقرير على مجلس النواب، لأنه بذلك قد اعتدى على اختصاص أصيل للرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، وأنه بذلك أعطى نفسه اختصاصا لا يخوله القانون إياه، ومن شأن القبول به أن يزكي ممارسة تفيد بأن السلطة القضائية تسير برأسين؛ الرئيس المنتدب للمجلس ورئيس النيابة العامة، وهو وضع غير سليم مؤسساتيا وقضائيا كذلك. وقد رفض عبد النباوي المثول أمام مجلس النواب للمساءلة والمراقبة، بناء على التقرير السنوي للنيابة العامة، فلجأ مكتب المجلس إلى حيلة، تتمثل في الدعوة إلى يوم دراسي يُسند أمر تنظيمه إلى لجنة منبثقة عن مكتب المجلس ورئيس لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان، بتنسيق وتعاون مع اللجنة الممثلة في مجلس المستشارين، وبحضور فعاليات مهنية وحقوقية وأكاديمية، حتى يتمكن من مراقبة ولو شكلية لجهاز النيابة العامة. عبد اللطيف وهبي، المحامي والبرلماني عن فريق الأصالة والمعاصرة، اعتبر الإحالة التي قام بها رئيس النيابة العامة على مجلس النواب «إحالة غير قانونية»؛ لأن تقرير الوكيل العام للملك يجب تدارسه في اجتماع رسمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، ثم يحال للنظر فيه على أنظار الملك بصفته الرئيس الفعلي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، وبعد نظره وموافقته، يحال التقرير من لدن الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية على رئيسي السلطة التشريعية». وأضاف وهبي أن «النيابة العامة، التي ليست سلطة دستورية، توسعت في استقلاليتها، وتحاول الآن أن تفرض نوعا من الاستقلالية حتى على المجلس الأعلى للسلطة القضائية. بمعنى آخر، تحاول الاستقلالية عن السلطة التي يملكها الملك بصفته الرئيس الفعلي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، والذي يخضع له الرئيس المنتدب للمجلس وينفذ أوامره، ويبلغه بجميع المستجدات». ونبّه وهبي إلى أن «سلوك النيابة العامة يعتبر نوعا من الانحراف القانوني والإداري، وفيه مساس خطير بدور رئيس الدولة. وإضافة إلى هذا كله، فيه تجاوز كذلك لدور البرلمان، إذ عقد رئيس النيابة العامة ندوة صحافية وقدم خلالها التقرير، وتصرف بحرية، ونشر التقرير للعموم قبل أن يتوصل نواب الأمة بنسخة منه». فهم خاص للاستقلالية لماذا هذا الوضع؟ لأن رئيس النيابة العامة له فهم خاص لمعنى استقلالية السلط الثلاث: الحكومة والبرلمان والقضاء، فهو يرى أن الاستقلالية تعني عدم خضوع القضاء، بما فيه جهاز النيابة العامة، لأي تأثير سياسي أو تشريعي، حكومي أو برلماني. وحينما يُسأل: من سيحاسب النيابة العامة؟ يجيب بأن الملك من له الحق في ذلك وحده، وكذلك المجلس الأعلى للسلطة القضائية، من خلال التقارير التي يرفعها إليه الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، بصفته رئيسا للنيابة العامة. عبد النباوي، بهذا الموقف، يؤكد قرارا سابقا للمجلس الدستوري جاء فيه: «لئن كان الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، المعهود إليه بترؤس النيابة العامة، يظل مسؤولا عن كيفية تنفيذه السياسة الجنائية، وذلك أساسا أمام السلطة التي عينته، والمتمثلة في رئيس المجلس الأعلى للسلطة القضائية، وكذا أمام هذا المجلس الذي يتعين عليه أن يقدم له تقارير دورية بشأن تنفيذ السياسة الجنائية وسير النيابة العامة، فإن المشرع، باعتباره المختص بوضع السياسة الجنائية، يحق له تتبع كيفيات تنفيذ هذه السياسة قصد تعديل المقتضيات المتعلقة بها وتطويرها إذا اقتضى الأمر ذلك». وأضاف قرار المجلس أن «التقارير الصادرة عن المجلس الأعلى للسلطة القضائية حول وضعية القضاء ومنظومة العدالة، والمنصوص عليها في الفصل 113 من الدستور، بما في ذلك تقارير الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، بصفته رئيسا للنيابة العامة، بشأن تنفيذ السياسة الجنائية وسير النيابة العامة، تعد تقارير تهم الشأن العام القضائي يجوز للجميع، لاسيما البرلمان، تدارسها والأخذ بما قد يرد فيها من توصيات، مع مراعاة مبدأ فصل السلط والاحترام الواجب للسلطة القضائية المستقلة، وحيث إن المادة 110 المذكورة، مادامت لا تشترط عرض الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض تقاريره المتعلقة بتنفيذ السياسة الجنائية وسير النيابة العامة، ولا حضوره لدى مناقشتها أمام اللجنتين المكلفتين بالتشريع بمجلسي البرلمان، فليس فيها ما يخالف الدستور». يستند الرئيس عبد النباوي في تصريحاته إلى هذه الاعتبارات للقول إن استقلال النيابة العامة إنما «يهدف إلى إبعاد القضاء عن الجانب الإيديولوجي والسياسي للسلطتين التنفيذية والتشريعية»، كما صرّح بذلك في الندوة العلمية التي نظمتها الجمعية المغربية للقانون الدستوري بجامعة محمد الخامس بالرباط، بمعنى إبعاده عن الأحزاب أساسا. لكن عبد العزيز النويضي، المحامي والحقوقي المعروف، يتساءل، في تصريح ل«أخبار اليوم»، عن مدى استقلالية النيابة العامة عن مراكز القرار، مشيرا إلى أنه «لا أحد يجادل في كفاءة ونزاهة عبد النباوي، إذ نعتبره باحثا مجدا ومشرعا وقاضيا كفؤا، لكننا سنبقى نطرح السؤال حول استقلالية النيابة العامة عن مراكز القرار». وأضاف النويضي، في إشارة دالة، أن «إصلاح النيابة العامة لن يكتمل إلا بإصلاح جهاز الشرطة القضائية، بجعله تحت الإشراف الفعلي للنيابة العامة، وفك الارتباط بينه وبين الأجهزة الأمنية التي يعد تابعا لها إداريا ويتأثر بتوجهاتها، ويخضع لسلطاتها أكثر مما يخضع للنيابة العامة». التغول.. حقيقة أم فزاعة وإذا كان القانون قد أسند إلى النيابة العامة تنفيذ السياسة الجنائية، فيما أعطى البرلمان صلاحية إعداد ووضع تلك السياسة، خصوصا بعد فصل هذا الجهاز عن وزارة العدل عمليا ونهائيا منذ 7 أكتوبر 2017، فإن المرحلة اللاحقة على عملية الفصل تلك أثارت الكثير من الجدل، خصوصا أن القانون المحدث لرئاسة النيابة العامة صدر على عجل، ولم يحظ بمناقشة واسعة من قبل الحقوقيين والسياسيين والرأي العام. ويؤكد عبد اللطيف وهبي، البرلماني عن فريق حزب الأصالة والمعاصرة، أن البرلمان لم يضع أي شيء حتى الآن، «نحن في البرلمان لم نضع سياسة جنائية ولا غيرها». واقع من شأنه أن يؤدي إلى تغول النيابة العامة فعلا، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالحقوق والحريات، وبشكل أخص كلما تعلق الأمر بمعارضي السلطة ومنتقديها. ويدافع وهبي عن هذا الطرح قائلا: «يبدو أن مؤسسة النيابة العامة تغولت بشكل كبير، إلى درجة أنها باتت تتجاوز جل مؤسسات الدولة. لقد أصبح الأمر خطيرا جدا، ويجب وضع حد لهذا العبث، فأنا أخاف على المغاربة من هذه السلطة المطلقة». عبد الرحيم العلام، أستاذ العلوم السياسية، نبّه إلى هذا الاختلال بقوله: «النيابة العامة لم تتحرك عندما أكد تقرير برلماني أن شركات معينة جنت 17 مليار درهم من الأرباح، أي مارست الإثراء غير المشروع، ولا تتحرك في قضايا فساد تشغل الرأي العام والمجتمع، أو ضد استغلال السلطة، وضد تحقير مقررات القضاء، لكنها تتحرك بسرعة كلما تعلق الأمر بنشطاء حقوق الإنسان، أي ضد نشطاء حراك الريف، وضد الصحافيين المزعجين للسلطة أمثال بوعشرين». ففي قضية توفيق بوعشرين، على سبيل المثال، أعطت النيابة العامة تعليمات للشرطة القضائية التي تدخلت لاعتقاله بناء على ثلاث شكايات، إحداها مجهولة المصدر، دون أن يجري إيقافه في حالة تلبس. ورغم المطالبة بإطلاق سراحه، فإن النيابة العامة أصرت على استمرار اعتقاله، ووضعه في السجن في نظام عزلة انفرادي بهدف تحطيمه وتعذيبه نفسيا، دون أن تكون مسنودة بالقانون في كل تلك الخطوات، بل جرى الإبقاء عليه في إطار «الاعتقال التحكمي» إلى اليوم دون أي سند قانوني، حسب دفاع المتهم، وهي انتهاكات دفعت الكثير من الحقوقيين إلى الحديث عن تغول النيابة العامة والشرطة القضائية كذلك. وقد لاحظ أشرف طريبق، منسق لجنة الحقيقة والعدالة للدفاع عن الصحافي بوعشرين، أنه «بفصل النيابة العامة عن وزارة العدل، والتي كانت تحاسب شعبيا على قراراتها في إطار عمل الحكومة، ينتابنا هاجس كبير بشأن ضمانات الجهة التي تشرف على النيابة العامة، والجهة التي ستسهر على توفير استقلالها الفعلي، وكيفية محاسبتها عن أخطائها وتقاعسها في القيام بواجباتها على أكمل وجه». لكن عبد النباوي، الوكيل العام للملك بمحكمة النقض، يرفض تهمة التغول التي باتت مقرونة بجهاز النيابة العامة، ففي نظره، «أصبح رئيس النيابة العامة دون أنياب، ولا مجال للحديث عن التغول»، مبررا ذلك بأنه «لا يمكن أن يعاقب القضاة أو يؤدبهم، لأن الوكيل العام لا يترأس المجلس، بل هو عضو فيه ضمن باقي الأعضاء؛ كما أن هناك ضمانات لاستقلالية القضاء وضعها المجلس الأعلى للسلطة القضائية»، وفق تعبيره. وخلال الندوة الصحافية لعرض تقرير عمل رئاسة النيابة العامة، رفض عبد النباوي، مرة أخرى، تهمة التغول في حق النيابة العامة، وقال: «نحن نطبق القانون، ومن الناحية الدستورية هناك ضمانات كافية للمحاسبة، وقوتنا نستمدها من قوة المواطنين والسهر على تطبيق القانون، لذلك أعتبر أن تغول رئيس النيابة العامة محض خيال». وبالنسبة إليه فإن «الغول حيوان خرافي، حيث يقول العرب إن هناك ثلاثة مستحيلات: الغول، والعنقاء، والخل الوفي، لذلك فإن تغول رئيس النيابة العامة هو محض خيال»، مؤكدا مرة أخرى.