في مجتمع يتلمس طريقه نحو القطع مع ثقافة الاستبداد لا بد من الإعلاء من قيمة الحرية، أقصد حرية التفكير والتعبير وخلق الفضاءات المناسبة لنقاش مختلف الأفكار التي تعبر عن نفسها من خلال بعض الأفراد أو بعض المجموعات، حتى ولو كانت مختلفة عن الاتجاه العام في المجتمع. هذه المجموعات من حقها أن تبسط رأيها بحرية وأن تجد من يناقشها بالفكرة والدليل والحجة، بعيدا عن منطق القمع والمصادرة وتقييد الحرية، ومن يستقوي اليوم بسلطة الدولة لتصفية خلافاته الفكرية والسياسية عن طريق القمع والمنع، فليس من حقه غدا أن يشتكي من المعاملة بالمثل.. أن يجتمع بضعة أفراد داخل قاعة فندق لمناقشة موضوع حرية المعتقد أو الحريات الفردية أو العلاقات الجنسية خارج مؤسسة الزواج، فهذا ليس عملا خطيرا، ولا يمكن اعتباره تهديدا لوحدة وثقافة وعقيدة المجتمع. أولا، لأن الاختيارات الكبرى للمجتمع، فيما يتعلق بهذه القضايا هي اختيارات راسخة ولا يمكن زعزعتها ببعض الانزياحات القيمية الهامشية، بل إن ثقافة المجتمع في عمومها ثقافة محافظة ولا يمكن تغييرها بسهولة، كما لا يمكن لأقلية معينة، مع احترام حقها في التعبير عن رأيها، أن تفرض منظورها على المجتمع بعيدا عن المسالك والآليات الديمقراطية المعروفة. ثانيا، لأن بعض هذه القضايا تستحق النقاش فعلا، ذلك أن الممارسة العملية أثبتت أن هناك تعسفا خطيرا في تطبيق بعض القوانين، ليس حماية لأخلاق المجتمع كما يتم الادعاء، ولكن لأغراض أخرى لا علاقة لها بحماية النظام العام. لنأخذ على سبيل المثال موضوع العلاقات الجنسية التي تتم خارج مؤسسة الزواج، أو ما يصطلح عليه البعض بالعلاقات الرضائية، التي تتم بعيدا عن أنظار المجتمع، فهي بالنسبة إلي كما بالنسبة إلى المجتمع المسلم هي علاقة محرمة من الناحية الدينية، لكن المشكلة تقع بالنسبة إلى العقوبات، فإذا كان الفقه الإسلامي تشدد في عناصر إثبات هذه العلاقة المحرمة، إلى درجة الاستحالة (اشتراط شهادة أربعة شهود)، بل وتوعد من يخوضون في الأعراض بدون بينة باللعنة في الدنيا والآخرة وبالعذاب العظيم يوم القيامة، كما نهى عن تتبع عورات الناس والتجسس عليهم، فمعنى ذلك أن العقاب الذي رتبه على مقترفي هذه العلاقة هو عقاب أخروي سيكون أمام الله، مادامت هذه العلاقة تتم في الخفاء، ولم تقع المجاهرة بها. لكن، ما نلاحظه اليوم من ممارسات، تجعل من حق المجتمع المدني أن يعبر عن رفضه للمداهمات الأمنية وعمليات اقتحام المنازل ومقرات العمل ونصب الكمائن، من أجل الإيقاع ببعض النشطاء والزج بهم في متابعات قضائية لأغراض سياسية بحتة، لا علاقة لها بحماية النظام الأخلاقي والاجتماعي العام، بل تستهدف التشهير بهم والنيل من سمعتهم بغرض القتل الرمزي والاغتيال المعنوي لهم. إن سلطة الدولة مسؤولة عن حماية الفضاء العام من الانتهاكات وليست مخولة للتجسس على الأفراد والتشهير بعلاقاتهم أمام المجتمع، وبإمكانها – بطبيعة الحال- أن تفسح المجال أمام برامج التوعية بمخاطر العلاقات التي تتم خارج مؤسسة الزواج، وأن تعمل على مساعدة الشباب وتمكينهم من بناء أسرهم المستقلة وتيسير أسباب ذلك لهم .. موضوع حرية المعتقد يحتاج بدوره إلى الكثير من التدقيق، فإذا كان دستور المملكة ينص على إسلامية الدولة، فهل معنى ذلك أن الدولة تكره الناس على اعتناق الديانة الإسلامية، أو تمنع تحول الأفراد الراشدين إلى ديانة أخرى بالقوة أو بالعنف؟ وهل تتدخل الدولة عبر القانون والقضاء لمنع اعتناق مذاهب فقهية من غير المذهب السني المالكي؟ وإذا كان من المفهوم منع حملات التبشير المسيحي التي تستهدف الأطفال، فهل من مسؤولية الدولة التصدي للتعريف بالمسيحية بالقوة أم عبر وسائل التوعية وفسح المجال أمام العلماء والدعاة للقيام بدورهم بحرية؟ كل هذه القضايا قابلة للنقاش والأخذ والرد في إطار مبدأ الحرية الذي هو الأصل، وتقييد هذه الحرية لا يمكن أن يتم إلا في إطار التطبيق الأمثل القانون، وفِي ظل احترام المسالك والمؤسسات الديمقراطية المنشئة للقواعد القانونية الملزمة للجميع.