يتأكد يوما بعد يوم أن "المسألة الاجتماعية" ستظل سيدة المسائل، وقضية ضاغطة على السياسات العمومية في المغرب، فقد تربعت على عرش اهتمامات الرأي العام الوطني عام 2017، وها هي تُدشن السنة الجديدة (2018( على وقع حناجر مدينة "جرادة"، التي أزهر الظلم على أبنائها مرتين: ظلمُ الطبيعة، وظلم السياسات، ولا يظهر على وجه اليقين، إلى أين ستؤول فصولها، وما إذا كانت هناك فصول لاحقة ستعقبُها في حواضر ومدن أخرى من البلاد؟ في حديث هاتفي مع صديق عزيز، أكاديمي نبيه ودمث الخلق، قال لي في جواب عن تساؤل ذي علاقة بما يجري في مدينة "جرادة": "إن الحراك انتقل وسينتقل أكثر مستقبلا من الحواضر والمدن الكبرى إلى الأطراف"، فكان تعقيبي على ملاحظته أن هذا مؤشر جدير بالرصد والتفكير والتحليل، وأنه ظاهرة إن تأكدت ستنطوي على أكثر من رمز ودلالة، وتابعتُ متسائلا: "أليست تحركات الأطراف، التي قد تصل حدودا قصوى، وربما غير متوقعة بما يكفي من الحكمة، دليلا على ضعف المركز، وعجزه عن إدارة الأزمات؟ ثم حين تتسع دائرة احتجاج الأطراف، ألا يدُل ذلك، بما لا يترك مجالاً للشك، على صعوبات تحقيق الاندماج الوطني في أبعاده السياسية والاجتماعية والمجالية؟ وفي مستوى ثالث، ألا تُحرض هذه الاحتجاجات، إن بقيت دون حلول مُرضية، على إضعاف تماسك النسيج الاجتماعي، وخفض منسوب الولاء للدولة ومؤسساتها"؟ يَعرفُ القارئُ النبيه أن ثمةَ أشكالا من الاحتجاجات، ومستويات من المطالب، ومراتبَ في إمكانيات الحلول وصياغة البدائل. وحيث إن "السياسة فعل، أو فن الممكن"، كما يُقال، فليس كل احتجاج أو مطلب أو بديل يحمل قيمة مطلقة في ذاتِه ولذاتِه، بل بالعكس، يُحيل "فعل الممكن" إلى متطلب الإنصات والحوار أولا، قبل أن يُفضي إلى الحل أو الحلول الواقعية وتنفيذها ثانيا. وحتى في مضمار الحلول، هناك ما يمكن القيام به مباشرة ودون تعطيل، وهناك ما يحتاج إلى وقت وتخطيط وإمكانيات على المستويين المتوسط والبعيد… لكن قبل كل هذا، وسر النجاح في "فعل الممكن" يكمن في التعاطي الصادق والمسؤول مع مصادر الاحتجاج، والتعامل الفعلي والفعال مع الحلول والبدائل الممكنة والمتاحة. كشفت ظواهر الاحتجاج في الأطراف وجود نزعة متصاعدة، قوامها التشكيك في صدقية أجهزة التمثيلية والوساطة بشقيها السياسي والنقابي، كما دلّت على ازدياد منسوب عدم الثقة في الوعود المقدمة من قبل الفاعلين السياسيين وصُناع القرار، وقد أفضى هذا النمط من الوعي المؤسس على معطيات واقع سكان الأطراف ومعيشتهم، إلى نوع من الخلط في المطالب، وعدم القدرة على التمييز بين الممكن والمتعذر، وبين القابل للتنفيذ مباشرة، والذي يحتاج إلى وقت وإمكانيات، أو غير قابل للتنفيذ نهائيا، لأن كلفته أكثر من منافعه. يُتوقع، في تقديرنا، أن تستمر الاحتجاجات بشكل أو بآخر، فقد تخمد وتدخل مرحلة الكمون، لكن لا تلبث أن تظهر من جديد هنا أو هناك، لسبب موضوعي هو أن هناك مصادر فعلية لاندلاعها، وتجدد اندلاعها. يتعلق المصدر الأول بهرم الأعمار في المغرب، حيث تمثل الساكنة دون سن الثلاثين قرابة 70 في المائة، وهي القاعدة الأكبر والأوسع، والأكثر ضغطا على الحياة العامة، فهذه الشريحة الوازنة من المغاربة، يهمها بالدرجة الأولى، ولعل ذلك أهم حقوقها، أن تشعر بأن لها أقرانا تناظرهم في الحقوق والواجبات، سواء في العيش الكريم، أو في الحرية والعدالة الاجتماعية. ثم إنها فئة، كان من نصيبها أن وُلدت في زمن ثورة المعلومات، وحرية تدفق منسوبها، وأن تجد في الإمكانيات الهائلة لهذه الثورة، ما يُسنِد احتجاجاتها، ويعرف بمطالبها، ويعزز تسويق نضالاتها، وهي كلها، في الواقع، ممكنات لم تكن متوفرة لغيرها من الأجيال السابقة. ما جرى في الريف، ويجري في جرادة، وبينهما في زاكورة، وأحواز بني ملال والمقبل في علم الله، يحتاج إلى إجراءات شُجاعة، منها ما أعقب حراك الريف، ومازال مستمرا.. وآخر قد تدعو الضرورة إليه.. وفي كل الأحوال يبقى الإنصات والحوار والحلول الشاملة والمستدامة، وإن على مراحل، هي المداخل الناجعة لإعادة ربط الأطراف بالمركز وتقوية اندماجها الوطني، وتعزيز ولائها للدولة، بوصفها بيتا للعيش المشترك.