لا أدري كيف اجتمع اسمه مع جسده، لم يكن هناك أي رابط بين اسمه ووجهه الكئيب الهزيل، وعينينه الذابلتين الغائرتين.. قالت لي أمه وهي تشبك أصابعها: «واش غادي نقوليك أولدي، سعيد صحابو خرجو عليه، بدا بالكارو او تبعها بالحشيش ...!!» قاطعتها ابنتها مستدركة : «المصيبة أنه مريض بضيق التنفس، وضعيف البنية، ولا يصدق الناس أنه في سنه العشرين ؟!» قلتُ في تعجب : تقصدين أن عمره عشرون سنة ؟! ■■نعم ■ كنت اعتقد أنه ابن 16 عشر ؟!! أعدت النظر إليه متأملا إياه من رأسه إلى أخمص قدميه، كان يرتدي السروال، ويلبس قميصا من نوع «كبيشو» ويغطي رأسه بغطاء القميص. لم تكن لديه أكتاف من شدة ضعفه، ولا تفرق بين ظهره و بطنه، عندما يبتسم تختفي ملامح وجهه، ولا تبرز إلا اسنانه التي بدأت في التآكل والتقيح، أما عيناه فكأنما أزحتهما من مكانهما إلى داخل الجمجمة، وكانتا محمرتين، عندما تراهما تعتقد أنك امام حارس ليلي لم ينم طيلة أسبوع كامل، ورائحة السجائر الممزوجة برائحة «الزطلة» تزكم الأنف .. لم تظهر عليه معالم الذكاء والنباهة، بل هي السذاجة طغت على ملامحه، برأسه المطأطئ في الأرض، وعينيه الخاملتين ! طلبتُ من أمه وأخته ان يتركونا لوحدنا، لكي أنفرد به لوحده في أحد المقاهي المجاورة، وعندما هممنا بالانصراف قلت لأخته : عذرا قبل ذهابكما، من الأفضل أن تأخذوا له هاتفا حتى استطيع التواصل معه لاحقا، لأنه لي أكثر من ساعة وأنا أنتظره!! ضحكت أخته وقالت : هذا ثالث هاتف نشتريه له ثم يبيعه ! بلعت ريقي في حلقي وأخذته دون أن أنبس ببنت شفة، وأدركت أنني أمام مدمن محترف!، ليس من السهل إقناعه بالتخلي عن قاتلته! ■■■■■■■■■■■■ حسنا يا سعيد، أخبرني كيف دخلت إلى عالم المخدرات وأصبحت مدمنا وأنت في هذه السن الصغيرة ؟ أزال القبعة من فوق رأسه، ثم رمقني بنظرة غريبة، وقال : ■■هل تريد مني قصة أحكيها لك كما تحكى آلاف القصص عن المدمنين؟ ■كيف لم أفهم ؟ ■■قصتي هي نسخة لآلاف القصص التي نراها كل يوم، لهذا فلا حاجة لسماعها لأنها أسطوانة مشروخة ! ■ولكن لك وضعا مختلفا عن الآخرين ؟ ■■وضعا مختلفا!! انه نفس الحشيش الذي نأخذه ويأخذه جميع المدمنين، ونفس المخدرات التي نتعاطها ويتعاطاها جميع المخدرين، فماهو الفرق؟ . ■نعم فهمت، ولكن اقصد الأسباب التي دفعتك لتعاطي المخدرات حتى نعرف اين هو الخلل ونعالجه. ■■الخلل ؟! ■نعم الخلل ؟! ■■عندما نريد تنظيف البيت وغسله، من أين نبدأ ؟ ■من الأعلى ؟ ■■حسبك هنا، فلا حاجة للشرح.. لم أستطع أن أستوعب ما يحدث، وأحسست بحاجة إلى الوقوف وترتيب أوراقي لأنني أعتقد أني أعطيته حجما أقل مما يستحق. فأنقذني النادل بوقوفه علينا، فطلبت قهوة مع الحليب، لكن سعيد طلبها قهوة داكنة لا حياة فيها، وأدركت أنه سيحتاج معها سيجارة حتى يعتدل دماغه، فطلبت من النادل أن يحضر معه سيجارتين، فقاطعني سعيد طالبا سيجارة واحدة، مستدركا: ■■■ أنا أحاول الإقلال من التدخين ! أخذنا نحرك فنجانينا بصمت، وانتهزت الصمت لأرتب أسئلتي حتى لا أضع نفسي في موقف محرج وحتى أظهر بمظهر المعالِج لا المعالَج . ■حسنا سعيد لنعد إلى ما كنا نتحدث فيه، حول الأسباب التي دفعتك لتعاطي المخدرات والتي ... قاطعني وهو ينفث دخانه في الفراغ ويتبعه بعينه الغائرتين حتي يتلاشى في الهواء : ■■أتعرف اخي عصام ؟ قالها وهو ينظر في السماء ! ■ماذا؟ ■■أغلب الناس يعتقد بأن المدمنين هم ضحايا ؟ ■وماذا هم إذا ؟ ■■المدمنون أناس طبيعيون كباقي البشر، والفرق بيننا وبينهم، أننا نعالج مشاكلنا بتناول المخدرات والباقون يعالجون مشاكلهم بتناول المسكنات. ■ولكن المسكنات لا يتناولها إلا المرضى. ■■لا اقصد مسكنات الأعصاب، ولكن مسكنات الأحلام . ■نحن نخدر عقلنا، وهم يخدرون حياتهم، نحن نختار واقعنا بأيدينا!! لكن الآخرين ■يُفرض عليهم واقعهم. ■أجدني لا افهم كلامك، أو ماذا ترمي الوصول إليه ان صح التعبير! ■■الحياة مدتها لا تساوي حتى فرقعة أصبعين وتنتهي، والكل يحياها وكأنهم ورثوها من إله جعلها لهم أبدية، ويحيا الإنسان في لحظة التقاء الأصبعين بطبعه الانساني الحيواني في صراع مع رموز وأشكال ومظاهر، يقنع بها نفسه أنه حقق بها ذاته وأصبح له شكل ورمز وكنية . لم استطع متابعة الحديث، وجدت نفسي بين احضان مدرس وليس مدمن، استأذنته في الذهاب إلى الحمام. غسلت وجهي ووضعت بعض الماء على قفاي حتى استفيق، واعي جيدا ما سمعت ! هل يمكن لمدمن مغيب عن هذه الدنيا ان يتكلم بهذه الفصاحة والعمق ؟ هل يمكن أن يصل الحرمان والضياع بالإنسان الى الحد الذي تخرج من أفواههم الحكم بدلا من الكلام البذيئ والساقط ! عدت إليه بمنزلة التلميذ من الأستاذ وبادرني بالحديث : ■■اسمعني جيدا، المجتمع خليط متجانس من البشر، ولا يمكن فصل ظاهرة عنه، دون ارتباطها بسلوكيات أنتجها ذلك المجتمع ! ■وضح أكثر.. أخذ رشفة اخرى حتى ذهب وجهه وعاد بزفرة ثانية وقال : ■■عندما نشاهد حالة شاذة لم يعهدها المجتمع، نعتقد أنه خارج عن منظومته، والأصل أن هذه الحالة الشادة وجدت داخل المجتمع، أي ان المجتمع هو من افرزها، لكننا نجده يتبرأ منها ويتهرب بعدما خرجت للوجود، وتبين ضررها، مثلنا تماما نحن المدمنين!. ■ حسبك هنا أخي سعيد، ناديت على النادل وطلبت منه تغيير فنجاني بقهوة سادة بدون سكر ! ■■ معدرة اخي سعيد احسست بصداع في رأسي، أكمل.. ■نحن لسنا ضحية، بل نحن نتاج بيئة من الفساد والاستغلال والمحسوبية، والانحلال، هل سبق لك أن رأيت شجرة التفاح تسقى بماء المرحاض ستنبث لك ثمرا طيبا ؟ ■■ لا ■ فكذلك المجتمعات. ■■ تأمل وجوه الناس، دقق في ملامحهم، ابحث في اعماقهم، الكل يجري، الكل ينادي نفسي، الكل يبحث الكل يريد ان يظهر، الكل يريد أن يكون أحسن من الآخر، لا هم لهم سوى البحث عن الدرهم تلوى الدرهم، ولا يقنعون، ولا يشبعون إلا عندما يطرق ملك الموت الباب عليهم فيتذكرون انهم لا يساوون إلا كفن ابيض مع ماء الزهر ! ■الا ترى أنك تحاول الهروب عن مشكلتك بتوريط المجتمع فيها ؟ ■■عندما تعطيك الشجرة ثمرا فاسدا، هل تسب الثمرة ام تسب الشجرة. ■الشجرة ■■اذا فالثمرة ليست الا نتاج شجرة فاسدة.. ■صحيح ■■والحل ماذا ؟ ■الاقتلاع !! ■■ أخي عصام، نحن نتاج مجتمع لم يستطع أن يتجانس بين احضانه، لم يستطع أن يضع القلب على القلب دون أن يحس بالأمان، مجتمع لم يقدر على ان يضع الروح مع الروح دون أن يحس بالصفاء، هل تعرف لماذا نتناول المخدرات؟،لماذا ؟ حتى نغيب عن هذا العالم المليئ بالخداع والكذب، الملئ بالمظاهر الخادعة، والالقاب المزيفة، والانفس الخانعة، والوجوه المقنعة، نغيب عن هذا العالم حتى نعيش عالمنا، بالرغم من ظلامه إلا انه صامت ساكن. نأخذ جرعتنا ونغيب عنكم ...