ترحيب ابتسامة وشبه انحناء، بخطو هادئ تتقدم، بدوره يتقدم النادل أمامها مجانباً يكرر حركاته وابتساماته: مرحبا للا مرحبا، تفضلي... بخطو هادئ تتقدم، ملقية نظرات جانبية في غير اكتراث إلى طاولات الزبائن، ،مطعم رومانسي جميل بألوان وظلال خافتة مريحة، منعرجات صغيرة مصطنعة، موسيقى رخية عذبة بلا مصدر ولا نبع، تنساب مشيعة في الكون مشاعر ارتخاء وحياد، كأنما هي اغتسال كيان، تفريغ خاطر ووجدان يتلقي لحظات حبلى مليئة؛ الفضاء كله أشياء وموحيات مشكلة خلوة سعيدة لكل فرد بذاته من الرواد، لكل ثنائي على الأصح، فما يقصد فرد مفرد عزلة من نوع ما هنا إلا بمشارك، ينشدان معاً أنس عزلة، عزلة أنس... ليست غريبة عن المكان، ولا يمكن أن ترد ترحاب مستقبلها إلى تعرف عليها، لبعد آخر زيارة لها هذا المكان، بقدر ما هو خلق المهنة؛ كانت تلك سابقة خلوة أنس مأمول منشود لما يرجى وينتظر، ليسفر صبح العلاقة عن وهم كبير، رفيق عزلة أنسها الذي كان إذ ذاك، لم يزد عن أن يسفر عما بدا لها أنانية عميقة، حتى أنها لم تتحمل أن تبرر موقفها الرافض... وعلاش؟ يسأل ويعيد، تقول إذا كان فعلا لم يفهم لماذا، فلا داعي لأي جواب، أما إذا كان يفهم ويقصد التأكد أو لمجاراة تمرينية، فما فائدة الجواب؟ يشير النادل وهو يتقدمها خطوات جانبية، إلى ركينة على طرف منعرج صغير، إشارته خفيفة تحمل الكثير من ملامح الاقتراح المتردد، تترك نظرته وتلتفت إلى فسحة المركز حيث دائرة طاولات، يسبقها النادل إلى حيث ترنو: طاولة ثنائية، مظهراً تردده واقتراحه الضمني بين المقعدين، أيهما تختار لنفسها أو تترك لمقابلها، متهيئاً لخدمة الجلوس على ما ترسو عليه. تود هنا، هكذا في المركز ومقابل المدخل، لم تشعر يوماً بأنها في حاجة إلى ركنية تستر أو شبه اختلاء بنفسها أو بمن يبثها وتبثه المشاعر، ولا حتى الهمس، لم التظلل؟ لم التهامس؟ الناس في اختلاء دائم مع ذواتهم تقول وتكرر، شتى جزر متحركة عازلة معزولة متحدثة إلى دواخلها منطوية غالب الأحيان، وحتى فيما يبدو مغاير صمت وشبه تبادل، لا يعدو أن يكون طلاءات، ضوابط كابحة، أقنعة، قواعد حديث وحركات خلاف الحال والمقال؛ احتياج آدم الأكبر الأولى والأشد، مرآة أمينة مرافقة تعكس الحنايا والأعطاف، تكشف ثنايا المكامن، تلك الجيوب الدفينة. بإيماءته الهادئة الودود، يتحرك النادل مرتباً بعناية ما لا يحتاج إلى ترتيب، يضع أمامها جانبياً بغاية لطف وأناقة، قائمة الطلبات وأخرى مماثلة للجليس المقابل، لينساب متراجعاً في انحناءته، كما لو كان ينسل متأخراً من زحام، كذلك يبدو لها صاحبها وهو يتوارى بهدوء كامل كما ظهر في حياتها أول مرة، بلا أدنى حركة أو أثر، الأثر؟ لا تنكره في نفسها، لا لمجرد أنه اختفى على النحو الصامت أو الصاخب، ذاك عندها سواء، إنما لأنها جازمة تعتقد أنها شمسها الساطعة، كشافة صراحتها، تلك التي لا تتخذ لها ساتراً ولا غربالا، ربما كغيره أعجب بها جسداً واستفاق عنها فكراً، لا دور لها تلعبه أنثوياً لمجرد أنه ذكوري، جسداً لآخر، لا، أثمن ما فيها كلها، الجسد أولا، الفكر أولا، الوجدان... لا ثاني لا ثالث... فليتوار، لم تسأل ولن... لم تتابع ولن... لمجرد أنها لن تشعر بالحاجة إزاء من يقسّم ويجزّئ، يريدك كما يريد حين ومتى وكيف... وهي بالتأكيد لو استشعرت حاجة لما تظللت وتخفت، بل لسعت وجاهرت بلا ديباجة ولا مقدمة، أو بتحضير هو جوهر البوح القوي المباشر، وذاك ما حصل، لا تنكر... وكانت سعيدة بذلك مع اللاحق في تجربة أخرى، إلا أن هذا بذاته نموذج آخر، في واد آخر، بل عالم مخالف، يسعى ما يزال لتحقيق ذاته قبل أن يفكر في استقرار وسكينة، مع ذلك كانت بمشاعرها أسعد، فكامن الانجذاب كاف وحده ليشعرها بوجودها، بعيداً حتى عن رد آخر لا تملك أن تجرفه، إن كان مجذوباً عن آخره لعالم وكون مخالف. يسمونها تجارب، فليكن رغم أن التجربة تكتمل بتفاعل عناصرها تحققاً إيجاباً أو إخلافاً سلباً، هنا أنت في تجاوز لذلك كله، تسميها تجربة من طرف واحد، لم لا؟ هل ترى من بأس؟ كلا، لذلك يسعدها أن يخفق القلب حقيقة، تنبض في ذاتها حنايا العمق، ليتأكد لها أنها هي هنا موجودة، ولو وحدها تستشعر؛ يعود بحركته النادل الهمام، زجاجة ماء يفتحها مومئاً بتساؤل ابتسامته، إن كانت ترغب في مشروب ما في الانتظار، تومئ بلا، يصب برشاقة من رقراق الزجاجة في أحد كأسيها، ترفع الكأس بتؤدة تلثم حافته، تبل شفتيها ما تكاد، يأخذها الصفاء في الماء والزجاج، لا ساتر ولا غربال، صفاء في تمام صفاء، والنفوس؟ يختلف الأمر هذه المرة، قد يهل المبتغى، قد... والاختلاف أكيد، يبدو لها شديد الانفتاح متقبلا للانتقاد منها هي خاصة، هي التي يقول في حقها أصفى الأصدقاء إنها... إنك يا صديقة مشتعلة جداً، قلعة لا يقتحمها هزل أو مزاح، قبلها قالت صديقة دعتها لحفلة تعارف، تغمز لها في ضحكة تتصنع لها الخلاعة، إنها فرص تتيح لفرساننا أن يتقدموا؛ تنظر إلى صاحبتها ملياً طويلا، كثلج يساقط على ضحكتها الساخنة: هنئي الجواري وهنية ألف هنيةعليكم كلكم... صاعقة مصعوقة تنصرف، يملآ وجدانها والخيال شعور الغثيان، تسترجع على الرغم منها بلاغة الأستاذ في وصف الشاعرية المرهفة، تلتقط دقائق اللحظة الجوارية تطريباً وإنشاداً ورفصاً في المجلس الخليفي العتيد، والكون كله ينشد مزاج القطب العتيد... لو كانت من أهالي العصور تلك، أي مصير يكون إلا سعادة أن يضمها قصر وتحظى برضى أمير إلى حين: "أحسن القول في مقامه فأعجب به، أكرم وفادته وأهداه إحدى الجواري ودابة محملة..." هذا ما يدخره التراث وبلاغة الأستاذ، بلاغة تتمصص المقاطع والحروف، تتفنن في سرد التفاصيل الحضارية والرفاه، حتى ليبدو من تماهيه أنه يحيا تلك العصور ينشق بقوة عبيرها، مضمراً كل الأسى والأسف على ما ولى من الزمن الجميل، لم تكن إذ ذاك تتعرف على ما تشعر به، إلا ما يملأ صدرها من ضيق وضيم، لم تكن تجد له منصرفاً حتى بانتهاء الدرس، ولو امتلكت منطق الوعي وحس اليوم، لما ترددت في أن تسائل بلاغة الأستاذ، أين يرى أمه وأخته في أمثال ذلك المقام المجيد السعيد... لا، لم يكن الدرس وحده ولا بلاغة الأستاذ لتتركها للحظة، الامتحان نفسه يأتي محملا بالعبير يتطلب للنجاح تحليلا مجيدا سعيداً بدوره، لوصف جارية... ما أكثر الجواري وأشمل عصور الفرسان... هكذا حتى الصديقة في أوج دورها القيادي تغمز ضاحكة لمناسبة تتصنعها وغيرها ليقبل الفرسان متبارين في الاختيار، التاريخ يعيد نفسه بقناع تقدم وثقافة أم هي سخافة الوعي يمعن تراجعه القهقرى؟ أما هي فتذكر جيداً كيف رسبت بتفوق في امتحان الجارية وشاعرية المدنف المستهام بسربال عبوديتها الأنثوية، لتترك إلى الأبد دراسة الأمجاد وما يمت إلى الحضارات التليدة، وتنصرف لتعلم المعمار، جسراً جسراً، حائطاً حائطاً، خطاً ركناً سقفاً، عالم صخر وصلب، وتغمر الوجدان في استنبات وعي حار وضمير لدى غيرها من اخريات. بتلطف يحوم حول مجلسها النادل، يتفقد بعين الحذق إن كان كوب مائها، نصف ملآن نصف فارغ، تقول في نفسها، تماماً كحالها نصف، نصف، قد يمتلئ الكوب كما قد يفرغ، بل لابد أن يفرغ ليمتلئ، حتماً ولو بعد حين؛ ماذا لو اختارت عن قصد وعناد، أن تتركه هكذا نصفاً نصفاً، لا يفرغ ولا يمتلئ ماذا فعلا لو فعلتها؟ إذ ذاك وحتى النهاية، ستأتي لحظة أو أحد، حتى ولو كان النادل اللطيف نفسه، أو أي غيره من عملة المحل، ليسكب أو يشرب المتبقي في الكوب، ليملأه لنفسه أو لغيره ولو بعد حين؛ كأن المعادلة صحيحة أبدية: وجود الكوب يستلزم حتماً عملية إفراع وملء، هي الطبيعة إذن تخشى الفراغ كما تقول النظرية، أتكون هي الكوب أم مقابلها الذي سيحضر؟ أيهما فراغ أيهما امتلاء؟ أم هما معاً للدورين معاً؟ بأي معنى إذن؟ تأخذها الأسئلة والإجابة، هكذا تعلمت تحاور نفسها وتظل، يبدو لها الأكيد في اختلاف تجربتها الحالية، أن صاحبها على طبع مما يجذبها أو تنجذب إليه؛ عارضت رأيه بقوة في خضم النقاش، لم يستسلم أو يركب العناد، كما تعهد في كثير غيره، وإنما أنصت باهتمام لجوانب اعتراضها على ما جاء في عرضه، ليقول بأنه لو كان مكانها منصتاً، لاعترض بمثل منطقها، لأنه نهج الاختصار وفق البرنامج، وكما طلبت ذلك رئاسة الجلسة، ويتمنى أن تتاح له فرصة تفصيل الإجابة في ختام اللقاء. ورأته يتفحص الملامح بحثاً عنها في نهاية الجلسة ليشير إليها... يبدو متعقلا ودارساً خطواته، يؤكد لها أنه يستشعر عدم اقتناعها، وبوده لو تتاح فرصة... لم لا...؟ تنظر إليه يتوقف متردداً إزاء فكرته... قد يبدو متسرعاً أو طائشاً أو هي منه رمية من غير رام... ربما؛ لكنها بدورها تكمل فكرته مدفوعة بانجذاب لا تتصنع مداراته... نلتقي؟ يجيب مرحباً أنه الداعي إذن، لا يتسرع يفرض الزمان والمكان خلاف المعهود في غيره، إنما يسألها عما تقترح. عشاء؟ "بين الكثبان" مكانها المفضل للحظات المفضلة ذوات الذكرى، تقترح المطعم، يؤكد سعادته باقتراحها، بأن يكتشف بدوره فضاء جديداً، الزمان؟ موافق، ولا يخفي أنه في غمرة انشغالات داهمة أنسته وغالباً ما تفعل آدميته، يشرق بابتسامة عريضة؛ ما لقيصر لقيصر وما... تشرق بدورها ابتسامتها العريضة، لا لحدث في الظرف، إنما لما تثيره فيها الأمثل والحكم وسائر كليشيهات القول، كوارثه كما تعتبرها، شخص ما يفشل في مقام أو يتعثر، تزل به قدم أو لسان، فيرسلها عفوا بنت لحظتها محملة معلّمة بسمة ظرفه الخاص، ليتلقفها المعلمون حكمة، نادرة... وقد يكون الأمر كله مجرد صنعة بلا مرجعية من واقع وتاريخ، ليركب عليها واقع وتاريخ ونظريات في ترويض الاقتناع البشري؛ يتابعها إغراء ابتسامته العريضة، يخالفها الرأي، لا باس فليس المجرى للنقاش الآن، تعرف مخالفته الرأي حتى قبل ان يومئ المجرى. وفاق، لا نقاش إذن؟ إذن... بتلطفه يحوم النادل حول جلستها، مختلس شبه نظرة إلى ساعته، تأخر؟ لم ترد هي أن تتأخر، ولا يمكنها أن تصطنع تأخيراً يمنحها قيمة الأنثى، أيختار هو أن يتأخر؟ لا تختلس نظرة إلى ساعتها، ولا تود أن تستشعر على محياها ملامح تضجر، يميل النادل بلطفه المعهود يملأ الكوب دون استئذان، لا تولي الأمر أهمية، إنما تستجيب برفع الكوب يلثم شفتيها، تتبلل به وتضعه مكانه... يتأخر؟ مجتمع بكامله يتأخر ليبقى خارج القانون، الكون لا يتأخر منه شئ لسيادة القانون؛ تحرك يدها، يسرع النادل بحذق يناولها لائحة الطلبات، ترفع رأسها، تمر بأصبعها على ما تريد دون كلمة، يسجل النادل ليختفي بانحناءة سريعة. يتأخر؟ هو إذن خلاف المألوف حقاً، لكن من الوجه الآخر، بالمقلوب المعكوس، خارج قانون الجادبية والتوازن البيئي وخشية الفراغ... أي قانون إذن؟ يعود النادل إلى جلستها، يلم لوازم الجليس المقابل: المنديل الصحنان كبير يحتوي الأصغر، الشوكات والسكاكين... يتعامل بملامح حياد، كأنما يخشى مغامرة تعبير من ملامحه، يعمل كأنه يكنس بقايا معركة أو يعد الساحة لمثلها، لكنه في النهاية يبين عن مخايل ابتسامة مواربة، متباعداً بأشيائه عن جلستها، تحدق في الفراغ المقابل، يبدو المقعد أكبر حجماً، أكانت لتستشعر فراغاً أكبر لو أزيل بدوره المقعد؟ أتراه كان ليملأه بالحضور أم ليزيده فراغاً؟ تصرف نظرتها إلى الشمعة المواظبة في اشتعالها والذوبان، تتابع تراقص اللهيب وشبه الدخان الخفيف... رومانسية؟ ربما قد تكون في نادر الأحيان، لكنها لن تترك لمشاعرها أن ترى في اشتغال الشمعة غير الذوبان، لا دموع حزن أو فرح كما قد يركبها صورة من يشاء، إلا صورة اشتغال، قانون احتراق وجرم قابل لانصهار. يقبل النادل أوفر نشاطاً هذه المرة، أخيراً وجد طريقه لخدمة يحسنها، يضع برشاقة مقبلاته المنتقاة بعناية مقرونة بالتمنيات اللطاف، ترنو إليه ممتنة، ترفع رأسها ملتفتة باعتداد إلى ما حولها، تدندن على ملتقى شفتيها تقاطيع أغنية قديمة: على المرء أن يعرف مغادرة الطاولة عندما يشرع الحب في التداول عليك أن تعرف كيف تغادر المكان عندما يشرعون في توزبع الحب... تغرز الشوكة بأناة في صحن المقبلات، ترفعها، تلوك، تتذوق النكهة الخاصة، يرن هاتفها الجوال ترنو إلى شاشته الصغيرة، تخرسه وتجعله في الصامت، تعود إلى تذوقها، مرة أخرى ترفع رأسها للنادل المتطلع لاستجابتها، تومئ بالرضى ليفتر عن بسمة ابتهاج عريضة، منصرفاً بهمة إلى الخطوة التالية في خدمتها، يذبذب هاتفها الجوال مرة أخرى، بلا رنة ولا جرس هذه المرة، تستشعر إلحاح ذبذبته في الأعماق، أعماقه كأنما يتبرم من وضع مضايق... ترف ترنيمة على ملتقى شفتيها: عليك أن تعرف تغادر عندما يُشرع الحب قلاعه ....