متكاثف كون يتداخل في عالم، عالم متشابك لكون لا متناهي أبعاد ومسافات، بدوره يتكاثف في حيز من خط طول وعرض، في موطن ومدينة حيث تتسع متمططة متمددة غرف وقاعات، عيون... عيون... عيون عيون مفتحة على شاشات عرض وقلوب تخفق، أحشاء تضطرب وأيدي تصفق، تخبط، تضرب عشوائياً على أي شيء يصادف، مرحاً قرحاً مع سداد قذفة أو حذق مراوغة، في اتجاه أو آخر، تبعاً لميل وحال. مُشرع غرف وقاعات على فساحة مدينة، شساعة موطن، في امتداد عالم للامتناهي كون، حيث ذرة في محيط، عين إبرة تضئ، تلتمع غرفة جلوس، إقامة محددة محدودة، لا فخمة لا مبتذلة، راقية رائقة، معدودة الزوايا والأركان، محكومة ببعد زمان ومكان. يقول أكثر من مرة لنفسه وسامعه إن كان ثم سامع، إنه يستشعر أن الحال تكون أفضل، لو ضمتهما مع شريكته فساحة فيلا شاطئية أو غابوية، بحديقة ومسبح وملعب... هل عبّر فعلا عن ذلك بصوت، أم هو مجرد خاطر عابر يضج في داخله؟ تقول ما الحاجة لعناء كل ذلك، متطلباته من خدم وحشم وصيانة وضجيج؟ ما الفائدة من سجن كبير، قدرة تجعلك في موقع العجر، ثراء يجعلك في حكم فقر، لا تغادر إلا لتعود، كأنك تلك الدابة المرصودة إلى وتد، مهما يُرخ لها حبل فلن تتعدى المقدار، مهما يغتن العالم حولها ويزدهر، فلن تنال أكثر من مرصود معدود بحد المجال؟ لا يزيد المرء على أن يفقد نفسه حريته إن كانت له حرية أصلا وهو يعدد ويمدد في إبعاد إقامة ومسكن، توابع وزوابع مستلزمات، وأنت في النهاية لا تستطيعين أن تتحرري من مراقبة هذا وذاك، تفقد هنا وهناك، تصنعين من نفسك لنفسك خادماً مواظباً سميعاً مطيعاً لرغبة الأشياء واحتياجاتها، تلك التي تخلقينها أو تقتنينها لعبوديتك، لماذا؟ ما الفائدة؟ أليس الأجدر أن تتجولي في مسابح العالم، بدل مسبح خاص، وعبر ملاعب حسب الاختيار في كل وقت وحين... حدائق وفنادق في كل الأرجاء، تكتشفين في كل لحظة ركناً وتبعثين المهترئ المتآكل من زمانك بتجدد المكان ... تقول ذلك، لا تدري إن كان لها مخاطب، مستمع أو مستمعة، أم أنها أفكار تموج، موج يهتز ظاهره على يسر، لا يُحس من فوق، قدر ما يعتلج عمق دواخله، غور عوالمه الخبيئة. عبر عين إبرة في كون ومحيط،، تلتمع معدودة أبعاد محدودة، إقامة لاهي ولا هي، إنما تشعرك زائراً بهدوء راحة منشود، لا تضج فيه إلا حركة الشاشة التلفزيونية المسطحة العريضة، وباسترسال صوت محكوم مكتوم بمقدار، كأنه السكون ذاته: الخٌضر ضد الحُمر، هنا كما في كل بقعة من بقاع كون تكاثف عالماً، موطناً، مدينة، بقع شاشات عاكسة مسطحة وغير مسطحة، حولها وجف وقصف وتصفيق. يتابع الشاشة كما تتابع هي، يتابعان معاً حذق الخُضر، خفة الحُمر، فيض لياقة ومرونة حركة، يقابلها المعادل المماثل. في الواقع، يبدو من منظورها هي أن شيئاً ما، يقاس بمقدار وقد لا يقاس، إنما يُستشعر، لصالح الحُمر بدون حق ولا مستحق، شئ ما، تتنسمه ربما هبّة ريح في هذا الاتجاه، طالما تنسمت بعض ذلك في مونديالات سابقة، أو حتى في مقابلات دون ذلك من ذوات القيمة... شيء ما تتنسمه، أشبه بتنسم تواطؤ خفي بين طرفين أو أطراف، ضد الخُضر بالذات، رغم أنها البداية تقريباً، وكل شئ قابل للتغيير، ثم إن الخُضر لا يبدو عليهم أنهم متأثرون سلبياً بشئ، ربما لا يعدو الأمر أن يكون وهماً منها، لأنها أرست مقدماً على الخُضر... أرست؟ وهو؟ التفاتة طرف عين منها، انعطاف نصف نظرة باتجاهه، يتابع بكل انهماك حركة الشاشة في سكونها، موقع نظرته هنا، هناك، أين؟ هنا... حُمْر، لا. هناك... خُضْر؟ لا تستطيع أن تتبين تركيز نظرته على هذا النحو من نظرة جانبية باتجاهه، ولو تحرك لسبب ما بسببها، لانفقدت وجهة تركيزه هنا هناك، لا يهم، لن تهتمّ فهي مع الخُضر، ويجب أن يكون هو مع الحُمْر، إنما لو عرف وجهتها منذ الأول لكان أسهل؛ لنفرضْ أنه يبادرها بأنه خُضر، يكون عليها حينئذ أن... لم لا تبادر هي تحشره في الركن؟ تنظر باتجاهه نصف نظرة، غير عابئ يستمر في تركيزه على حركة الشاشة المسطحة الساكنة. سفرتهما الأخيرة خططا لها بعزم وتصميم، سفراتهما توقفت منذ... منذ... لكنهما كمن يفيقان فجأة من غفوة، يقرران أن يسافرا معاً، لمشهد الثلوج خارج الوطن، كأنما لا تذيب الثلوج إلا الثلوج، أو... داوني بالتي.. طالما انتهت سفراتهما السابقة قبل تمامها بمكالمة، تجعل أحدهما يبدو مغلوباً على أمره بضرورة العودة، يقبل الآخر بصمت، مكالمة يتكلفها أحدهما حفظاً لماء وجه أو بقية من كرامة، حتى لا يقول في وجه صاحبه بأوضح من شمس ظهيرة: كفى لا أطيق... حتى لا ينتفض أحدهما أو يقلب محتوى الطاولة؛ سفرتهما هذه المرة معاً، جاءت بمراجعة صامتة من طرف كل منهما، بعزيمة وتصميم، لترميم شئ، تجديده أو بنائه من جديد. على بعد خطوة من بوابة الطائرة، كانت تسبقه بدرجة أو اثنتين، أمامها سيدة أم، يداها مكبلتان إلى الأمام باحتضان وليدها الرضيع، ببراعة أمومية تحمل مهده الصغير ومتعلقات أخرى بثني الأصابع، مراعية وهي تخطو الدرجات بكل التؤدة، ألا يختل ما تحافظ عليه من توازن، وأن يظل وضع علاّقة حقيبتها اليدوية ثابتاً على كتفها الأيسر... هوووووب... على الدرجة الأخيرة يتمايل كيان السيدة باتجاه تساقط مفاجئ، تسارع من ورائها تسندها من جانب، ينما تخطو مضيفة من جانب أخر، سليمة لا بأس، شبه بسمة وعبارة شكر على وجه السيدة الأم، لا تخفي معالم هلعها العميق،غياب حياة في شحوب وجه، صفرة يخالطها بياض، هلع لا تمحو معالمه عبارة من طرف اللسان، بشر بنجاة وامتنان لا تذرو معالمه بارقة سكينة... أي مزيج بأي مذاق؟ محتضنة رضيعها تسلم كل شئ بسلاسة، كل شئ لأيدي المساعدة إلا الرضيع، تسلم المهد الصغير والمتعلقات الأخرى والحقيبة، دون احتضان الوليد، تنظر بامتنان إلى ما حولها، لتغض باتجاه ملامح الطفل، نبضة بشر وسلام غبّ إعصارحوف وهدير... أي مزيج؟ تتقدم السيدة الأم وراء المضيفة توجهها إلى المقعد، ترتب عنها الأشياء في القمطر العلوي، لا تحفل الأم بعدا بسمة أصبحت ملازمة، تنحني على صغيرها تطبع على وجنته قبلة حنو أمومية...أي مذاق؟ كان يتبعها، وراءها، تحس دبيب خطوه دونما التفات، ألم يأخذه المشهد؟ لعل قلبه امتد مع امتداد يديها لاحتضان الطفل عن أمه خشية السقوط، إن لم تأخذه صورة الأم المحتضنة، ألا يأخذه مشهد الوالد المنتظر عودة مزدوجة لشريكة حياة محملة برفيق رحلة، مؤنس صغير؟ كيف هو هذا الأب المنتظر، بأي مذاق وحفاوة قلب يستقبل؟ جلستْ في وضع كالمقابل للأم وراءها جانبياً، يفصلهما الممر وصفّ من مقعدين، ترنو إلى طافح أمومة يتدفق، يشع، يشيع؛ بينما يجلس إلى جانبها بهدوء مشرعاً جريدته بطريقة آلية، كأنما يقبر بين سطورها كل المشاهد. عرضت له فرصة، ربما أكثر من مرة، لكنها في إحداها كانت الأكثر ملاءمة مع ظروفه، شريكته إذ ذاك في واحدة من سفراتها خارج البلد، لا يدري كيف عنّ له أن يكسر القواعد، قواعده السلوكية على الأقل، ليكنْ صريحاً إنها القاعدة التي فرضها عليه الارتباط بها، يتذكر لون أمسية منغصة، حين استعملت حاسوبه لعطب أصاب جهازها، تجده مفتوحاً على الإيميلات الواردة ضمن مراسلاته، يدركْ على الفور، بعد فوات الأوان، أنه لم يغلق صندوق مراسلاته، تمتد بعفوية يده تتدارك، لكن حركتها تكون الأسبق لزر الإغلاق، دون أن تنظر باتجاهه، كأن شيئاً لم يقع، تغافل يدرك معناه، يظهر المعنى في سياق آخر، حين تدمج سؤالا عن آخر معرض للفنانة وهبة، تشكيلية طالما تحدثا عنها، كل منهما يعرفها، معرفة عادية جداً وعن بعد إلى حد كبير، لكن السؤال عنها الآن، عندما يأتي من شريكة حياتك بالذات، بعد اطلاع على إيميلات تراسلك، فهي رسالة أكثر منها استفهام، يقول إنه لم يحضر معرض الفنانة وهبة، جواب عن سؤالها المخبوء، حول دعوة الحضور الموجهة إليه عبر الإيميل، يسبقها بالجواب لما تسأل عنه دون أن تسأل؛ الفنانة وهبة كانت سانحة فرصة له لو أنه تابع ... على الأصح لو استمر في اللعبة إلى نهايتها على طريق وهبة، وقد سنحت له الفرصة مواتية كاملة؛ تمتمت إذ ذاك في سمعه جانبياً من خلف، وهو يتأمل إحدى لوحات معرضها، نفر كالمستفز بأنفاسها الدافئة حذو سمعه على حين غرة، تسأله إن أعجبته اللوحة، ينظر باتجاهها، ابتسامتها العريضة، يتريث ليقول يعجبه كل شئ منها، تتأبط ذراعه توجهه لآخر إنتاجها. «المنعزلة» هكذا تسميها، آخر لوحاتها تعرضها في ركن خاص وعلى مضض، لأنها لا تريد بيعها، وتخشى حرج الموقف إذا اختارها مشتر، مدير معرضها أصر على إكمال دورة تطورها الفني بآخر لوحاتها، بينما ما تزال تحس بأن لمسة ما تنقص، أو بالأحرى تحس إزاء «المنعزلة» برباط خاص... لم يكن عسيراً عليه أن يفهم: إنها صورة منها لكن... يسألها إن كانت تحيا عزلة، على مستوى الشعور مثلا، مع ما يحيط بها من حيوية عوالم فن وإنسان؟ ملياً تنظر إليه: حديث يطول، ليس هذا مكانه. نحدد المكان. ينتظر الجواب، لم لا؟ نتعشى إذن. لم لا؟ تتركه بإشراق ابتسامة عريضة، متحركة تتهادى بمهل تجاه زوار أروقتها، يعود لهيئته التأملية وهمسها حذو سمعه... منعزلة، وهو ربما أكثر وأعمق، لم يكن يعرف قبل، أن له طريقة تأمل فنية تلفت النظر، بل تثير إعجاب فنانة مثلها، لكنها تفتتح قلاعه كلها بهمسها. يقترح فرصة لقاء، يود أن يجعلها تتمتع أكثر كما يتمتع، وعلى انفراد معها، بطريقة تأمله للوحاتها، الفنان مهما كان يحتاج إلى رجع الصدى، ذاك يلهمه حقاً... بداية اللعبة تلك، وعندما تلح مشاعره باتجاه تحديد اليوم والموعد، ترتخي عزيمته، تتذرع أكثر من مرة، لترتد يده عن زر المكالمة، ويستقر في النهاية على أن لا داعي ولا فائدة، هو في وضع تعرفه، ينقطع حبل اللعبة عند رغبة منه وغير رغبة. لم؟ يتساءل لم لمْ يمض مع وهبة إلى نهاية اللعبة، وكانت به رغبة دفينة... الآن، شريكة الحياة تسأل بمكنون لفظ وإضمار، عن معرض وهبة؛ كان ممكناً جداً أن يلقي جوابه صريحاً فاضحاً، عن سؤال يتبدى غير فاضح ولا صريح، لو اختار أن يساير اللعبة بل ينسجها إلى نهايتها الطبيعية مع الفنانة، أكان لذلك حينئذ نفس يفوح؟ نظرتها على حنو الأمومة لا تريم، تلتفت قليلا باتجاهه، تفاجئ منعطف نظرة منه تتعدى طرف الجريدة باتجاه ما... يعود يدفن نظرته بين السطور؛ لو أنها تشهد لحظة توهج رحلة الأمومة، طفح لقأء بحرارة الشريك الوالد المنتظر... لو تحضر رأي العين تتملى لحظات اللقاء، لو... مضيفهما كان جاهزاً في الموعد والاستقبال، تضيع فرصتها، فرصتهما معاً في تهجي لقاء أسرة تجتمع على شمعة من فرح، لحظة بوح بالأسارير، دافق شوق، أي مزيج؟ تجربة تلك الرحلة الأخيرة التي خططا لها بنية عزيمة، تبدو منتكسة منذ بوابة الطائرة، هي بالذات لن ترى في أي خطوة أو نظرة بعدها في كل ما ترى، إلا احتضان وليد، تطبع على وجنتيه قبلة... تسألهما موظفة الاستقبال منفرجة الأسارير، مبتسمة لتأكيد مدة الإقامة في الفندق، ينظر إليها كالمستفهم، تتحرك باتجاه الخروج تنشد أنفاساً تحسها باردة. فرصة عرضت أكثر، هذه المرة بعزم منها في إحدى سفراتها خارج البلد، أنهت ما يجب من مهمة ومهام، لكن قبل ذلك بمجرد دخول الفندق، تستعمل رقما هاتفياً لمن لم تنس أبداً نظرته إليها في أكثر من لقاء، وسيم جسور مقبول البناء... حمدان، عرفتني؟ تسأل عبر الجوال، يعلو رده في احتجاج: من ينساك؟ أين أنت؟ عندما يلتقيان، يبادر مستنكراً هذه الدعابة المتسائلة إن كان عرفها... يقول مستحلفاً إياها ومتحدياً، إن كان أحد أفهمها يوماً أو فهمت منه أنه يمكن أن ينساها من رؤية واحدة... لهجة صدق غنة وثوق منعشة، تضحك في سرها، لا تجيب عن حرارة استنكاره. تساير على طول الخط بكل عزمها، تقبل الدعوة لعشاء رسمي، يقول إنه مدعو إليه، وستكون نجم الحضور وضيف الشرف في بلده، تسير مرحبة؛ والبداية؟ بداية الخيبة كما تترجمها، من مراجعتها لشريط الأحداث فيما بعد، موعدهما عشي قبيل المساء، بداية الخيبة ككأس بارد مثلج على رأس يفور، عندما يفتح لها باب السيارة من الجانب الأيسر، كما يفعل السواق والخدم، لا لم تكن متشائمة منذ هذه البداية، لكنها في قرارتها كانت تفضل تحول قبلة اللقاء الخفيفة، إلى ما هو أعمق وأكثر صميمية، تود أن يأخذها عن نفسها كالمذهولة، لا تملك دفعاً، لكنه اختار حركة مسرحية ميتة، بعد قبلة لقاء استشعرتها باردة مقارنة مع حرارة الكلمات على خط الاتصال: من ينساك؟ يأتي اقتراحه أن يمرا بمقامه الخلوي أو سكنه الثانوي، المخصص للعطل وأوقات الاستراحة، على البحر تلامس أمواجه أقدام «الكبانو»، بشرفة منفسحة أمامها امتدادات المحيط وقوافل السفن حد الأفق، في وجهتها صوب أقرب ميناء؛ تنظر حركته المفاجئة وهما يدلفان، خلوة رومانسية واقعية حميمية، ماذا ينتظر؟ يشرح لها متعلقات المكان والجوار، يسألها ما تشرب؟ حريتها أن تشرب كل شيء، ما تريد، لكنه ينسج الخيبة مرة أخرى مستدركاً أن ما ينتظرهما عشاء رسمي... أي خيار لها؟ عصير يضعه مصحوباً بمكسرات؟ أما كان له أن يلغي هذا الرسمي العشاء ويحتفي بحريتهما؟ يا سلام، يتناولان، يتبادلان أحاديث في غاية الجد حول السياسة والاقتصاد والفن، وحكايات صبيانية عن مقتطف ذكريات حول هذا الموضوع أو ذاك، تترى بلا طعم، ينظر إلى ساعته، سننصرف للرسمي دون... ولا قبلة أو همس مشاعر. فعلا يأتي حفل العشاء باذخاً بفئة المدعوات والمدعوين عدا كبار المسؤولين، تجده بجانبها نجماً، من حرارة احتفائهم به، يجعلها بالفعل نجمة أكبر وأزهر، عندما يقدمها باسمها ومهامها وبلدها، يقف لها الجميع تحية، ترد بكلمة شكر وامتنان حقيقية... إلخ... أهذا ما ينتظرها، مؤججة المشاعر محددة العزائم أقبلت؟ يختصر ربما مراعاة لمشاعرها فترة الأحاديث الهامشية عقب العشاء، يعود إلى حركته المسرحية البروتوكولية، يفتح لها باب السيارة، يتحركان، جولة ليلية في معالم المدينة بلا معنى، إذ لا شئ غير تعليقات حول أماكن نشاطُها كيت وكيت، بعضها مغلق لتأخر الوقت، والبعض الآخر لا سبيل لنا إليه طبعاً... لماذا؟ لا تدري لم لا يأخذه جنون منتصف الليل ما بعده، يلج بهما إحدى علب الليل تتقافز أنوارها متداخلة الألوان؟ في طريق العودة، تتناثر بعض نكت يعقبها ضحك وتعليق تأثراً ومجاراة، لا شئ ويبدو أن حبل النكت قصير، ليعرج على موضوعات معرفية... أيشعر بما تشعر به؟ الرغبة، لعلها تنطفئ إن لم تكن... لكن شبه الغثيان شعور خفي، أيشعر مثلها وفي أي اتجاه؟ تنحرف السيارة، رغم الليل تدرك أنه ليس طريق العودة القويم، تسأله. الطريق مختصر إلى «الكبانو» بيته الخلوي... يقولها بعفوية، الآن؟ يقول ببرودة، لديه متسع فراش وأغطية، لم لا... ويقرآن بعض الشعر، ويتحدثان في الفن... الآن؟ أين كنت منذ كانت مؤججة؟ جرأتك الخبيئة الميتة، ترتدي رداء خجل أو غفلة أو كبرياء... تلتف بالمواربة كلها، كليا من قمة إلى أخمص، حتى لا يُتبين منها شئ... وتقول الشعر والفن وفيض فسحة من أفرشة وغطاء؟ الآن؟ تمد يدها برفق تلمس مقود السيارة، مشيرة إلى تغيير الاتجاه نحو الفندق، كالمصدوم يتساءل، يجرب بكل خجل متردد أن يرفض، بل يلح في الطلب، تكرر رأيها، الأجيجُ ذاك والعجاج ذياك، نضب وغيض الفيض. لم يبق إلا أزيز احتكاك العجلات بالإسفلت، تلتقطه هيناً ناعماً، كما هي هينة ناعمة وجهة العودة؛ ويستفيق كالقادم من غيبوبة، يمد يده يلمس يدي يقبلها، أستشعرها، يود أن يرتمي باتجاهي رمية جانبية يقتطف قبلة غير متيسرة مع الوضع، والأهم أن لا فائدة، تستمر حركاته أثناء القيادة تمارس اللمس، لا ممانعة مني، لكن لا أثر لا إحساس، ثم قبلة عند عتبة الفندق، أرادها حارة على الشفتين، بادلته ببرود. تصبحين على خير. يتراقص التماع الشاشة المسطحة، تومض بخطف لمع، لتعود انتظامها، يتنفس الصعداء مثلما تتنفس، يبحث عن ولاعة وسيجارة، بينما تتحرك باتجاه الثلاجة تبحث عن بارد منعش، ربما يفضل قهوة ساخنة، لكنه يجيب عن سؤالها إنه يفضل سيجارته مفردة... مفردة؟ ينطقها بعفوية، لكنه قبل، كان ينطقها بعذوبة ممطوطة، يريدها مفردة هي، هي، هي، لا قهوة ولا سيجارة الآن... ترشف كأس عصيرها البارد، يمتص عقب سيجارته متعالياً دخانها في احتراق صامت، لا حُمْر ولا خُضْر، تعادل ميت، ما كان ليستحق عنت هياج وانفعال... أحسن. حال نادرة من صورة لا غالب ولا مغلوب، ما يزال بينهما دور ثان على مدى فترة. أحسن. حال منشودة قلما تتحقق، طبعاً ما كان لأحدهما إلا أن يضمر ارتياحه أو فجيعته في حالة لون أو آخر، والوضع هكذا أحسن ما يمكن، ترشف ويمتص، تنفتح الشاشة الآن على لون وحيد، عديم اللون تقريباً، أو سماوي بكل الألوان، يتابعان كل من زاوية، ببعض اهتمام، بطل وحده يسعى لتحطيم رقمه القياسي، وحده والمضمار، بلونه الجامع لكل لون، ينفض رماد سيجارته، يطفئها كلية، تضع الكأس جنباً على الطاولة، سكون الشاشة تحركه أمواج تصفيق وتشجيع ولون وحيد في اتجاه أوحد... يثبت قدميه في الشبشب ينهض في ارتخاء وتثاؤب، تظل مكانها في جلستها محدقة في اللون الوحيد المتحرك، تتلمس كأسها تدنيه من شفتيها تعيده دون رشفة، تتابع الشاشة عمق الشاشة، حيث تتحرك أشياء ولا أشياء، تضغط زر الإطفاء، تتلاشئ فضية الحركة على العاكس المسطح، تلمس زر النور، ينسدل الظلام...