تحفل الأزمات السياسية دائما بالعبر والدروس التي تعين كل ذي بصيرة و وعي سياسيين على فهم الأمور و استشراف المآلات و إدراك أوسع و أعمق للحقائق بعيدا عن حماسة اللحظة و عاطفة الإنتماء السياسي. كذلك هي الأزمة المصرية الحالية, أزمة الإنقلاب العسكري على الشرعية الديمقراطية و الدستورية, أزمة تجلي في نظري الحقائق التالية: 1. مسارعة الملكيات و الإمارات إلى مباركة انقلاب العسكر بتهنئتهم عدلي منصور بالرئاسة المؤقتة لمصر دليل فاضح على عدم استعدادهم المبدئي للتحرك قيد أنملة في أي مشروع لإرساء الديمقراطية في بلدانهم و الإستجابة لمطالب شعوبهم بالحرية و الكرامة التي لا مدخل لها إلا الإصلاح السياسي. دليل يفضح أيضا تواطؤها المادي أو المعنوي على الأقل مع مشروع إجهاض ثورات الربيع الديمقراطي و خاصة ثورة الشعب المصري. ثورة إن كللت بالنجاح و بدأت ثمارها بالنضج على المستوى السياسي والإقتصادي و الإجتماعي ستكون أنموذجا يحتذى و أثرا يقتفى لباقي شعوب المنطقة القابعة في درك الفساد و الإستبداد, إذ ما يبررهذه الثورة السلمية المجيدة من أسباب و دوافع توجد مثيلاتها في باقي الدول و إن بدرجات متفاوتة. 2. فضح العقلية الغربية المباركة للإنقلاب جهرا أو على استحياء بعبارات دبلوماسية بئيسة بغيظة, عقلية غير أخلاقية, لا تحكمها لا قيم ولا مبادئ إنسانية ولا تحكمها العواطف الجياشة أو الحماسة الزائدة, عقلية تتخذ من المصلحة عقيدة لها فتدبر بعمق و خبث و توأدة للحفاظ عليها. عقلية لا تسرها نجاح ثورة دولة عظيمة كمصر, دولة ذات ثقل استراتيجي و سياسي تمتلك كل المؤهلات الديمغرافية و الطبيعية و الإقتصادية لإحداث نهضة حضارية إن استتب الإستقرار و امتلك ساستها حس الوطنية و التزموا بالأخلاق السياسية و أيد الشعب بوعي الشرعية الديمقراطية و الدستورية. 3. التمييز بين الملتزمين بمبادئ الديمقراطية المدافعين عن الشرعية السياسية الدستورية و بين المتلبسين بشعارات الديمقراطية قولا, المنافحين عن قيم الإستبداد السياسي فعلا بوجوه تتدعي الحداثة و أسماء ترمز للشرعية الدينية. تمييز أبرز الوجه القبيح لبعض المؤدلجين بقيم الإستئصال و الإقصاء من علمانيين و يسارييين و ليبراليين و حتى إسلاميين لطالما صدعوا رؤوسنا بالحديث عن الديمقراطية و بركاتها فلما آلت الأمور إلى خصومهم الإيديولوجيين سارعوا إلى الإنكار والرفض و الشجب و الصراخ و العويل و من ثم الإنقلاب و دعمه في تضحية خسيسة بمبادئ الديمقراطية التي اتضح أنهم لم يؤمنوا بها قط إلا مطية للوصول إلى كراسي الحكم و لم يتربوا على أنها أفضل نظام للتداول السلمي على السلطة بين مختلف مكونات المجتمع السياسية دون إقصاء, نظام- بكل إختصار- يضمن إستقرارالبلد إن تم احترام قواعده. 4. دولة الفساد العميقة ليست بالتنظير الفكري الطوباوي أو مجرد تبرير سياسي لإخفاق الإصلاحات أو تعثرها أو بطئها. بل هي دولة حقيقية تجمع كل من ألف الإمتيازات غير المشروعة و النفوذ السلطوي اللامضبوط بضوابط القانون و اتخذ من ثروات البلد مرتعا له و لأهله الأقربين قرابة النسب أو الإديولوجيا أو السياسة. دولة لها امتداد في كل المجالات من قضاء و إعلام و اقتصاد و كذا في كل الإدارات و المؤسسات العامة و الخاصة. دولة تجابه بكل الوسائل المتاحة, المشروعة و غير المشروعة, كل محاولة للمساس بمصالحها أو التضييق على حجم امتيازاتها, دولة تتخذ من بعض الوجوه السياسية ناطقا رسميا لها و من بعض المؤسسات الإعلامية داعما لها في معركة التجييش ضد الإصلاح و أهله عبر نشر الشائعات البغيضة و التهم و الأكاذيب الملفقة المجانية. هي دولة تنتفض بمجرد المساس بأحد رموزها لأن كل مكوناتها تعلم أن صمتها هو إيذان بدنو أجلها لذلك وجب على السياسي الإصلاحي الذكي مجابهتها بالتدرج مستعينا بالآليات القانونية مع تجنب الإستهداف المباشر المفضوح. 5. ضرورة حذر الحركات الإسلامية بمختلف أطيافها من الغلو في التعويل على الشعبية العددية لكسب الرهانات السياسية و التبخيس من قيمة الأقلية. فمنح الأقلية حقها في التعبير عن نفسها و فسح المجال لمعارضتها يعد قيمة ديمقراطية أولا قبل أن يكون تكتيكا سياسيا مرحليا فقط. ينضاف إلى ذلك أن الأقلية الممتلكة لأسباب القوة من مال و إعلام المسنودة برموز الدولة العميقة يجب التعامل معها بحذر شديد فهي تمتلك القدرة على الحشد من خلال المال بشراء الذمم و البلطجية الفكرية و البدنية و كذا من خلال الإعلام عبر تزييف الوعي الشعبي و الركوب على المآسي الإجتماعية و الإقتصادية لفئات عريضة من المجتمع و تصوير السلطة الحاكمة لفترة وجيزة جدا مسؤولة عنها. 6. ضرورة ترشيد الخطاب السياسي للأحزاب ذي المرجعية الإسلامية و ذلك بتخفيف الحمولة الدينية في خطابها, إذ من شأن ذلك توسيع دائرة المؤمنين بخيار التيار الإسلامي كتيار سياسي يتغيى إصلاح البلاد على أساس مشروع واضح المعالم يحمل في طياته أجوبة عن مشاكل المجتمع الإقتصادية و الإجتماعية, تيار يبتعد عن الميز بين أبناء الوطن الواحد على أساس ديني أو طائفي أو عرقي فهو تيار يخاطب المواطن أولا و أخيرا لا المسلم أو المسيحي أو السني أو الشيعي..., تيار لا يعتبر مخالفيه أو معارضيه من الكفرة الفسقة أو الملحدين الزنادقة و لا يجعل من التضييق عليه أو معارضته تضييقا على الإسلام و المسلمين و رفضا لهما. فبالإبتعاد عن هذه الزلات و الأعطاب في خطابه السياسي, يستطيع التيار الإسلامي أن يوسع دائرة المتعاطفين معه, المطمئنين إليه و إلى أجندته السياسية, الواثقين من تشبته حقيقة بالخيار الديمقراطي و إلى امتلاكه القدرة على أن يكون البديل الحقيقي عن التيارات السياسية المنافسة. 7. كشفت هذه الأزمة و غيرها عن حاجة مجتمعاتنا الملحة إلى ثورة ثقافية سابقة أو مواكبة على الأقل لمسار الثورة أو الإصلاح, تعيد بناء و تشكيل الوعي السياسي الجمعي المتشبع بقيم الديمقراطية و الكرامة و الحرية, المؤمن بالإختلاف و بوجوب تدبيره بالطرق السلمية الحبية فقط. ثورة ثقافية تقودها نخبة فكرية مرتبطة بالشعب و منحازة إلى مطالبه المشروعة, و تتبناها قوى المجتمع المدني الفاعلة, ثورة ستخلق دينامية فكرية و ثقافية في المجتمع تؤطر الفعل السياسي و ترشده . كانت هذه سبعة دروس مستشفة من الأزمة المصرية الراهنة, أرى أن استيعابها ضروري لفهم الأمور و وضوح الرؤية, مع التأكيد على أن الدروس و العبر تتوالى بتوالي الأحداث والحاذق من وعاها و اعتبر.