لا يعرف الشعب المصري اليوم بأي قانون بات يحكم به منذ أن قرر المجلس العسكري الإنقلاب على الرئيس المنتخب ديموقراطيا د. محمد مرسي: قانون طوارئ، قانون عرفي، أم قانون الحكم العسكري الذي سيعود بمصر عقودا خلت إلى الوراء. هل ستتبع فيما سمي بالمرحلة الإنتقالية، أو الانتقامية، سياسة طبقا لدولة القانون والحوار أم الدولة الأمنية التي عانى من ويلاتها الشعب المصري طوال الست عقود الماضية التي ظل يرزخ فيها تحت قبضة المجلس العسكري. كل متتبع للشأن المصري يتضح له جليا بعد الممارسات التي أقدم عليها المجلس العسكري من إحتجاز للرئيس المنتخب ديمقراطيا، وإعتقال القيادات السياسية المعارضة لقراره وسياساته، إضافة إلى إغلاق القنوات الفضائية المعارضة ومصادرة حرية التعبير وإضطهاد للمتظاهرين السلميين كسابقة في مرحلة ما بعد الإطاحة بحسني مبارك، التي تعطي صورة مسبقة لما يمكن أن يؤول إليه الوضع مستقبلا إذا ما إستتب الأمرعلى هذا النحو بيد المجلس العسكري: سياسة الدولة الأمنية التي لا زالت قابضة على مفاصل المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية عبر كل مفاصل الدولة العميقة, متجاهلة كل مبادئ الحرية والديمقراطية والعدالة الإجتماعية، وحقوق الإنسان، علما أن المحاكم العسكرية والإعتقالات القسرية ليست عنا ببعيدة. الدولة الأمنية المستبدة التي تعرف كل حقل في الحياة انطلاقاً من المبدأ السائد في الدول الديكتاتورية «الأمن أولاً»، الذي تعتبره مطية للتصرف في شؤون الرعية كلها كما تشاء بلا خشية حساب ولا عقاب، ومبررا لإغتصاب السلطة الدستورية وإنتهاك حقوق الإنسان جميعها . النظرفي المشهد السياسي المصري اليوم يستلزم منا وضعه في سياقه العام بدءا بتحديد بعض المفاهيم التي توجد في صلب الصراع بين الأطراف المتنازعة والتي يلجأ البعض إلى صياغتها حسب أهدافهه وتطلعاتهه الخاصة، تحديد الأطراف الداخلية الفاعلة في الأحداث الأخيرة مع التركيز على الطرف المؤثر الأساسي في هذه التحولات، علما أن المشهد لا يخلو من تدخلات أطراف خارجية وازنة، لنستعرض بعد ذلك السيناريوهات المحتملة لتطور هذا المشهد، مع الوقوف على ما نراه من تحديات وعقبات من الواجب إقتحامها لتتوفر الشروط الأساسية لإكتمال بداية مسار الثورة المصرية التي يتنظرها الوقت الطويل والعمل الجاد المسؤول لتحقيق أهدافها. الشرعية الدستورية وأزمة التطبيق الديمقراطي دون الخوض في نقاش التعريفات المختلفة لمفهوم الشرعية (أو على وجه الخصوص للشرعية الدستورية والقانونية)، نحاول التعرض لما هو متعارف علية داخل ممارسات الأنظمة الديمقراطية الذي يتقاطع مع طبيعة النظام المصري وخصوصياته في المرحلة الراهنة بعد الإطاحة بنظام حسني مبارك. ثمة تداخل لا مفر منه عندما نبحث في تعريف الشرعية على نحو جامع وشامل أو بما يحمله من خصائص تكشف عن المعنى الكلى. إذا قبلنا من حيث المبدأ مقولة أن الشرعية بإيجاز هي ممارسة السلطة بالحق الدستوري والقانوني، فإن التداخل المفترض يرتبط بعدة مسائل، قد تمثل كل واحدة منها صورة الشرعية برمتها: (أ) الحيثية القانونية لشرعية السلطة، (ب) مدى قبول الناس اللازم لشرعية الحكم السياسي وكيفية تمثل هذا القبول، (ج) كيفية ارتباط ممارسة الحكم بسلطات تخولها الشرعية (د) ضرورة إضفاء الشرعية في ظل أوضاع سياسية معينة. وإذا سلمنا بهذا التداخل يواجهنا الغموض الكامن في سؤال يطرح: هل يجب أن تكون كل النظم التي تدعي الشرعية ديمقراطية؟ الجواب يستوجب تحديد المعايير الأساسية التي تحدد هذه الشرعية في النظم الديمقراطية. وإذا كانت الصورة الشائعة للقبول الشعبي بوصفه المعيار الديمقراطي للشرعية، فإن الوقائع تؤكد تمتع نظم غير ديمقراطية بشرعية صاغتها على مقاسها الخاص تخول لها الشروط اللازمة لاستمراريتها بغض النظر عن الثمن الذي يستوجب تأديته دائما من طرف عامة فئات الشعب المسضعف. غير أن النفع العائد من ارتباط الشرعية بالديمقراطية يتمثل في المستوى الإجرائي لممارسة السلطة عبر قوانين ومؤسسات يمكنها أن تضع معايير تقييم أداء النظام السياسي الحاكم عبر مهامه الوظيفية التي تحددها تطلعات معظم الناس الذين يتوقف عليهم مستوى القبول والثقة، وبالتالي اكتساب الشرعية للنظام المعني بالأمر. الشرط هنا هو وجوب ارتباط الشرعية بالقبول، ومن ثم ارتباط السلطة واستممراريتها بالشرعية المنبثقة عن مساطير قانونية ومعايير دستورية تجعل من القانون والدستور وكذا كافة المؤسسات المنبثقة منها الحكم الفصل في كل ما يخص صياغة السياسات التشريعية والتنفيذية وتدبير الشأن العام السياسي. بغض النظر عن الأشكال الأخرى التي بإمكانها أن تضفي شرعية مكرهة لسلطة ما أو نظام معين، وهو ما ذهب إليه الكاتب "ماكس فيبر" بتحديده لمفهوم السلطة الكارزمية والسلطة التقليدية. السلطة الكارزمية تستمد شرعية سلطتها من الولاء للقداسة والبطولة والفرد بوصفه شخصا نموذجيا متميزا، ومن خلال النموذج الأخلاقي الذي أوحى به أو أقامه. ثم السلطة التقليدية التي تقوم على شرعية الإيمان الراسخ بقدسية التقاليد الموغلة في القدم، وطاعة القادة الذين يستمدون سلطاتهم من هذه التقاليد، وهي الأكثر ذيوعا وانتشارا في العالم العربي. يظل كلا النموذجين مرتبطان بشكل وثيق ومولدان للأنظمة المستبدة التي يقبع تحت قبضتها الأمنية جل دول العالم العربي بما في ذلك مصر التي ظلت رهينة قدسية المجلس العسكري الذي أسس لنظام ديكتاتوري أغرق البلاد في كل متجليات الظلم والفساد، والذي لا زالت مخلفاته متجذرة في كل أطراف الدولة العميقة، والتي تحول دون أي مبادرات تهدف إلى إستكمال مسار الثورة المصرية والقطع مع كل مظاهر وممارسات النظام البائد. ما يعنينا هنا، السلطة القانونية التي تعتمد في اكتساب شرعيتها على الإيمان بالطرق القانونية سبيلا للممارسة. فالقواعد الدستورية والقوانين وسلطات المسؤلين ملزمة لأنها قانونية، وما يتحقق بطريقة قانونية يعتبره الناس شرعيا، وهذا ما يعمل به في الدول الديمقراطي التي قطعت أشواطا كبيرة في مسار الحكامة والحكم المدني. وبذلك يبقى تدبير شأن الخلاف السياسي عبر آليات الحوار والتوافق الوطني الديمقراطي، في إطار الشرعية القانونية التي تحدد الإطار العام لنظام الحكم في البلاد، بعيدا عن لغة قوة السلاح وسياسة الأمر الواقع التي لجأ إليها المجلس العسكري المصري مؤخرا. المجلس العسكري: العقبة الأساس في مصار الثورة المصرية إذا كان الدور الأساسي للجيش يتمثل بصفة عامة في الدفاع الوطني، نلاحظ في دول الأنظمة الدكتاتورية أن المؤسسة العسكرية تتجاوز ذلك للتدخل في الشؤون السياسية للبلد. عوض أن يكون تحت إمرة السلطة المدنية، العكس هو الذي ساد في جل تجارب الستينات والسبعينات. ولا زالت آثاره ممتدة إلى الآن وحتى الآن ، حتى لو نزع المعنيون عنهم الزي العسكري، لتكون بذلك مصر النموذج الذي يمثل القاعدة. عادة ما يتدخل الجيش بقوة للاستيلاء على السلطة وإلغاء النظام القائم. وبعد مرور بعض الوقت يحاول إقامة مؤسسات تضفي عليه طابع الشرعية: يضع دستورا ويجري انتخابات تكرس له على الأقل رئاسة الدولة (مصر، سوريا، ليبيا، موريتانيا، الجزائر إلى عهد الشاذلي، إضافة إلى عدد واسع من الدول الإفريقية والآسيوية و أمريكا الجنوبية). قد يعلن الجيش منذ البداية أن تدخله مؤقت إلى أجل يحدده هو بنفسه بالإعتماد في تسييره للشأن العام على أطره مباشرة (نموذج المجلس العسكري المصري بعد الإطاحة بحسني مبارك)، أو تنصيب كومبارس مدني يأتمر بأمرها كما هو الحال مع تنصيب المستشار عدلي منصور بعد إغتصاب السلطة من الرئيس مخمد مرسي. ، ولكون النظام العسكري قائم على الانضباط، فإن ذلك يجعل الجيش لا يقر أي اضطراب أو رأي مخالف، لأنه لا يرى في المطالب الشعبية إلا أعمالا للتخريب يحاربها بقوة، ولعل الجرائم التي أرتكبت يوم الإثنين 8 يوليوز 2013 في حق المتظاهرين السلميين أمام مقر الحرس الجمهوري التي أودت بما يزيد عن 50 قتيلا والمئات من الجرحى في سابقة خطيرة يوجه فيها الجيش المصري سلاحه ضد المدنيين السلميين العزل لخير دليل على ذلك. النظام العسكري يوصف بالنظام الدكتاتوري لأنه يجمد العمل بالدستور أو يلغيه، ويحكم بشرعية القوة وسياسة الأمر الواقع، والحريات الديمقراطية تعرف تقلصا كليا، والإجراءات التي أقدم عليها المجلس العسكري المصري من إحتجاز للرئيس المنتخب ديمقراطيا دون سند قانوني، وتعليق للدستور ، وحل لمجلس الشعب، وإعتقال جل قيادات التنظيمات المعارضة، وإغلاق كل القنوات الفضائية المعارضة، ومصادرة كل الحقوق الفردية والجماعية، إلخ، لخير دليل على ذلك. بموازاة ذلك، يلجأ الجيش لممارسة السلطة بواسطة تنظيمات غير دستورية، تتمثل في البلاغات والبيانات والمجالس العسكرية، التي تأخذ أسماء متعددة: مجلس الإصلاح الوطني، مجلس الحوار الوطني، مجلس الحكومة الإنتقالية، مجلس الإنقاذ الوطني... بحيث تكون كل مقاليد السلطة بيد العسكريين مع محاولة لإضفاء الشرعية الأخلاقية عبر مؤسسات دينية ومدنية تدعو إلى الإستهجان. وإستقطاب المجلس العسكري للكنيسة والأزهر (مع تأكيدنا على فصل مواقف الرموز عن المؤسسات بإعتبارها لا تعبر في غالب الأحيان عن تطلعاتها في ظل حكم الأنظمة الديكتاتورية) إضافة إلى بعض مكونات المجتمع المدني لإضفاء الشرعية على الإنقلاب الذي أقدم عليه ضد نظام الرئيس محمد مرسي تأكيد على هذه الممارسات المستهجنة والمتخلفة. ظل المجلس العسكري المصري مرتبطا بالسلطة وتأطير الشأن السياسي لأزيد من ستة عقود منذ إنقلاب الضباط الأحرار، وبقي الشعب المصري منذ ذلك الحين رازخا تحت دكتاتورية المجلس العسكري بشرعية الإنقلاب و القوة وسياسة الأمر الواقع. لذلك سيكون من العبث أن ننظر إلى الإنقلاب الأخير كما لو كان طارئا، بل يحتم علينا وضعه في هذا السياق التاريخي ليتضح لنا أنها محاولة أخرى من طرف المجلس العسكري لإجهاض الثورة وإعادة زمام السلطة إليه من جديد بعد فشل المشير حسين طنطاوي في ذلك مباشرة بعد الإطاحة بحسني مبارك. الإطاحة بحسني مبارك لا تمثل سوى حلقة البداية في إطار المشروع التحرري للشعب المصري الذي يخوضه مع النظام السياسي المستبد المتمثل في سلطة المجلس العسكري بالقوة والمكتملة عبر أجهزته الأمنية البوليسية وكذا مختلف أصحاب النفوذ المرتبطة مصالحهم بهذا النظام والممتدة أطرافهم في كل مفاصل الدولة العميقة. الدولة العميقة التي تمثل القاعدة الخلفية لهذا النظام العسكري والتي يعمد إليها لتصريف كل سياساته وعرقلة كل محاولات التغيير التي تهدد مصالحه كما هو الشأن مع التجربة الأخيرة التي كان يخوضها الشعب المصري من أجل بناء دولة المؤسسات التي تربط المسؤولية بالمحاسبة في ظل أول رئيس مدني منتخب منذ ستين سنة. الدولة العميقة المرتبطة بكل مؤسسات الدولة بدءا بأجهزة الأمن، والإقتصاد، والإعلام وإنتهاءا بالمجال الفني والرياضي، والشأن الديني، إلخ. والإطاحة بواحد من رموز النظام لا يعني زواله بإعتبار أنه تتغير الأوجه والأساليب بتغير المعطيات والتحديات الآنية، لكن يبقى كنه النظام في عقليته الأمنية المتسلطة الرافضة لكل منطق للحوار والمشاركة بالأحرى عن تداول السلطة وربط المسؤولية بالمحاسبة. الثورة المصرية تستلزم لإكتمال مسارها تخليص المؤسسة العسكرية من قبضة الثعالب العجوزة وكل من تربى في كنفها من قيادات المجلس العسكري الحالي لتأخذ مكانها ودورها الطبيعي كمؤسسة دستورية خاضعة لقيادة مدنية منتخبة منوط بها حماية الحدود وأمن الدولة بعيدة عن كل ما يتعلق بالشأن السياسي الداخلي الذي هو من إختصاص القادة السياسيين المنتخبين ديمقراطيا مع باقي الأطراف الأخرى من أحزاب المعارضة والمجتمع المدني بمختلف مشاربه الفكرية والإديولوجية وكذا مجالات عمله المختلفة. إقتحام هذه العقبة ليس بالأمر السهل ولا الهين، قد يكلف الشعب المصري الحر المزيد من التضحيات، لكن حتمية هذا الأمر تتطلب من الشعب المصري أن يضع نصب عينيه دائما كل العقود الماضية من الظلم والقهر والفساد التي كبده إياها المجلس العسكري، ويعي جيدا أن هذا الأخير لا يعرف في تركيبته سواء على المستوى الهيكلي أو التنفيذي سوى منطق الإنطباط وطاعة الأوامر الفوقية، دون فسح أي مجال للحوار وإبداء الرأي الذي يعد ضربا من الخيال في المنطق العسكري. كيف لنا أن نتصور أن تنظيما على هذا النحو وبهذا المنطق يمكن له أن يكون مصدرا لإرساء دعائم تجربة سياسية ديمقراطية في مجتمع يتسم بتركيبة إجتماعية معقدة وجد مختلفة ومتباينة. وكيف لنا أن نتصور من كان الأساس في إنتاج الأزمة المصرية بكل تعقيداتها عبر كل هذه العقود الست الماضية أن يكون هو صاحب المبادرة والريادة في إيجاد الحل أو إدارة ما يسميه بالمرحلة الإنتقالية، أو بلأحرى الإنتقامية، التي يحاول فيها استدراك الوقت وإعادة موازين القوى إلى نصابها من جديد بإستبعاد كل القوى الحية المعارضة مهما كلف الأمر من ضحايا وإراقة دم الأبرياء. على الشعب المصري أن يعي أن المجلس العسكري لا يمثل البتة المؤسسة العسكرية التي وجدت لخدمة المواطن والشعب المصري، والحبلى بقادة عسكريين وجنود من ذوي المروءات والضمائر الحية والقلوب اليقظة التواقة إلى الحرية والإنعتاق، منوط بها أن تكون سندا للشعب المصري لتحرير المؤسسة العسكرية وتحريره من قبضة هذه الثعالب العجوزة من المجلس العسكري المستبدة بالسلطة والمتحكمة في كل دواليب الشأن السياسي والإقتصادي. الفشل في الملف الإقتصادي ، من أهم مؤاخذات المعارضة في حق الرئيس محمد مرسي. لكن حتى لو سلمنا بهذا الفشل لعدم إتخاذ الرئيس محمد مرسي التدابير اللازمة وفي الوقت المناسب لتجاوز الأزمة، كيف لنا أن نفهم هذا الكرم الخليجي اللا محدود، وتوفر السيولة من جديد، وإنعدام الإنقطاعات في شبكة الغاز والكهرباء بقدرة قادر مباشرة بعد الإعلان على الإنقلاب العسكري، الشيء الذي لم يستطع الرئيس محمد مرسي الحصول علية طوال سنة كاملة رغم كل الجهود والمبادرات التي بذلت في هذا الإتجاه. أوليس هذا إرتهان لمصير الشعب المصري واللعب بكل قدراته وبحقه في العيش الكريم، مقابل رفع شعارات الديمقراطية والحرية والمساوات الزائفة. ديمقراطية المحاكم العسكرية التي لم تنتظر طويلا حتى في الوقت الراهن لإحتجاز الرئيس المنتخب قانونيا، ورئيس مجلس الشعب السا بق وكذا العديد من القيادات السياسية التي كانت في سدة الحكم دستوريا بدون أي سند قانوني و بتهم مستهجنة تذكرنا بنمط السياسة الأمنية لحكم المجلس العسكري والمتسلطة على رقاب الشعب طوال الست عقود الماضية. إكراهات المرحلة وتحديات المستقبل مسار الثورة المصرية كغيرها من الثورات الشعبية يبقى طويلا ومعقدا وتنتظره العديد من العقبات التي يستلزم إقتحامها الكثير من الصبر والتؤدة والتضحيات التي قد تكون باهضة لوضعها على الطريق الصحيح من أجل تحقيق أهدافها المنشودة. إذا كانت الثورة تبدأ بالإنتفاضة على الظلم والإستبداد وإزاحة بعض رموزه (كالإطاحة بحسني مبارك مثلا)، فإن نجاحها يستوجب بعض الشروط اللازمة: - انهيار الأساس الإيديولوجي الذي يستمد منه النظام الحاكم شرعيته، وهو شرعية القوة العسكرية وسياسة الأمر الواقع، وقدسية المؤسسة العسكرية (التي من المفروض أن تكون خاضعة للمراقبة والمحاسبة القانونية)، والخلط بين المؤسسة العسكرية كمؤسسة دستورية وقياداته المتمثلة في المجلس العسكري، والتي تعتبر أطر موظفة من قبل الدولة المدنية يتم الإبقاء عليها أو إستبدالها إستنادا لكفاءتها وقدرتها على أداء المهمة. - إجماع جل الفرقاء السياسيين على الإبعاد الكامل للمجلس العسكري عن الحقل السياسي بدءا بتعيين وزير دفاع مدني والعمل على تدبير الخلافات السياسية عبر لغة الحوار والتوافق بعيدا عن الخيارات الأمنية وسياسات القوة والأمر الواقع. - الإتفاق على ميثاق وطني يؤسس لأرضية جديدة و خارطة طريق المرحلة الإنتقالية المقبلة ويؤطر العمل المشترك من أجل بناء دولة المؤسسات التي تربط المسؤولية بالمساءلة والمحاسبة. على كل أطياف الشباب المصري ممن أيدوا الإنقلاب العسكري أن يعوا جيدا خطر المنزلق الذي زجوا انفسهم فيه حين أتاحوا الفرصة من جديد لمن أذاقهم القهر والظلم لمدة ستة عقود أن يأخد مجددا بمقاليد السلطة. إنها إنتكاسة وإنقلاب على ثورتهم وعلى كل تطلعاتهم التي إنتفضوا من أجلها في 25 يناير 2011 وقدموا من أجلها الكثير من التضحيات. ويتفطنوا إلى أطياف المعارضة المخربة (وإن قل عددها تبقى جد مؤثرة في المشهد السياسي) التي لا تريد لمشروع التغيير أن يتحقق إما خدمة لأجندات داخلية أو خارجية أو لكونها حبيسة الأنا المتعالية التي تجعلهم لا يرون غيرهم مصدرا للإصلاح وكفاءة لقيادة الدولة وتدبير الشأن السياسي والإقتصادي للبلاد. في غياب ميثاق وتوافق وطني بين الأطراف السياسية، والإنشقاق العميق الذي يشهده المجتمع المصري بين مؤيد ومعارض للإنقلاب العسكري، نرى أن المشهد السياسي يبقى مرشحا للتطور في إتجاه السيناريوهات المحتملة التالية: إستمرار المجلس العسكري في سياسته الأمنية بإعتقال كل قيادات التنظيما المعارضة، ومصادرة كل وسائل التعبير الحر والتواصل، و قمع المتظاهرين السلميين. هذا السيناريو هو الأكثر إحتمالأ لأنه من صلب طبيعة سياسة النظام العسكري التي دأب عليها طوال العقود الست الماضية والتي عاد إليها بمجرد ما إستتب إليه الأمر من جديد. هذا المشهد هو مرشح للتطور بشكل تصاعدي وسيشكل في نظرنا المعركة االثانية والحقيقية للثورة المصرية بين المجلس العسكري الذي يمتلك زمام السلطة (بعد ذهاب واحد من عناوينه – حسني مبارك) والفئات الشاسعة من الشعب المصري الذي يعي جيدا طبيعة المعركة والتحديات التي تنتظره. هذه الجموع ما تفتأ تنضم إليها الفئات الأخرى من الشعب المصري التي غرر بها وذهبت لتأييد الإنقلاب العسكري حين تتوالى سيناريوهات القمع وإراقة دماء الأبرياء، مع التضييق عليها هي الأخرى وإستبعادها تدريجيا من المشهد السياسي بعدم مشاركتها في القرار تارة أو عدم الوفاء بما إتفق عليه تارة أخرى بتبريرات مختلفة. ستعي لاحقا من إستفرد بالسلطة طوال هذه المدة من الزمن لا يمكن أن يتقاسمها خصوصا وقد وجد من يتيح له الفرصة من جديد على طبق من ذهب. عملية التمحيص والغربلة في مسار الثورة المصرية أمر طبيعي بدءا بالأطراف التي أراد المجلس العسكري أن يضفي بها الشرعية على إنقلابه وكافة الجهات المناضلة ضد حكم العسكر من الشعب المصري ليتخلص جسم الثورة من كل هذه الشوائب وتعود الثورة إلى مسارها التصحيحي والجولة الثانية والحقيقية في معركتها من أجل الحرية التي يستوجب عليها خوضها بكل سلمية وثبات ضد من كان ولا زال يحكم مصر، المجلس العسكري. ستدفع المعركة الشرفاء من القادة العسكريين الذين لم تلوث بعد أياديهم بالفساد لحماية شعبهم الحر وتخليص المؤسسة العسكرية الدستورية وكذا البلاد من قبضة هذه الزمرة المتسلطة والفاسدة من رموز المجلس العسكري الحالي وعودة الشرعية القانونية والدستورية إلى نصابها عبر وفاق مسبق بين كل الأطراف المعنية. التفاوض مع الرئيس محمد مرسي والأطراف المؤيدة له بعدم عودته إلى منصبه كرئيس مقرنة بعملية إستفتاء شعبي يفضي إلى تنظيم إنتخابات رئاسية مبكرة، بعد مرحلة إنتقالية لا تتعدى الست أشهر تتم إدارتها من طرف المجلس العسكري أو شخصية مدنية يتم الإجماع عليها مع حكومة وفاق وطني لتدبير المرحلة ويتم فيها إلغاء ما تم الإعلان عنه من تعديلات دستورية وإعفاء المستشار عدلي منصور من مهامه. مع التأكيد على أن المجلس العسكري سيبقى على حاله وفي مكانه كالوازن الأكبر في صنع القرار السياسي ومهدد دائم لإستقرار دولة المؤسسات والقانون. التفاوض مع الرئيس محمد مرسي والأطراف المؤيدة لعودته إلى منصبه كرئيس شرعي منتخب وعودة مجلس الشعب للإشتغال بمهامه وإلتزام مسبق مع الأطراف السياسية الأخرى على خارطة طريق يتم فيها تحديد مشروع وفاق وطني يبدأ بتشكيل حكومة وطنية تضم كل الأطراف السياسية والتهييئ للمرحلة القادمة إما بالإتفاق على إنتخابات رئاسية مبكرة، أو إتمام الفترة الرئاسية المتبقية مع الإتفاق على تعديلات دستورية يتم الاستفتاء عليها في وقت يتفق عليه مسبقا. مهما تعددت السيناريوهات فإن الصمود السلمي للشعب المصري يبقى الداعم الأقوى والأساس في هذه المعادلة. أضف إلى هذا أن طبيعة النظام العسكري مع الضغوط الخارجية (من دول غربية وعربية) والتي لا تريد نجاحا لنموذج ديمقراطيا منبثق من رحم الربيع العربي خوفا على مصالحها المحلية والإقليمية، وكذا من خطر تصدير النموذج لدول أخرى عربية حليفة، فإن السيناريو الأول يبقى هو الأرجح. هذا يتطلب من كل الأطراف أن تمد جسور الحوار وتستعد كما قامت به في 25 يناير 2011 وبعدما تخلصت من عقبات وشوائب المعارضة المخربة (وهي قليلة) للجولة الثانية والحاسمة من ثورتها، والذهاب قدما لبناء ذلك العمران الإنساني والأخوي الذي قوامه الحرية والكرامة والعدل.