حدثت في مصر «الهزّة» الثانية، أو «الشوط الثاني»، من الثورة. فظهرت الحاجة إلى تناول مسألة أساسية، وهي التمييز بين «الشرعية القانونية» و«الشرعية الثورية». حيث انطلقت في مصر، في يوم 30 يونيو - حزيران 2013، مظاهرات معارضة وحاشدة (توصف ب ''المليونيات''). وتوالت هذه المظاهرات خلال أكثر من 6 أيام، في ساحة «ميدان التحرير»، وأمام «قصر الاتحادية»، بالعاصمة القاهرة، وفي مدينة الإسكندرية، وكذلك في عدة مدن أخرى من مصر. ولم تشهد مصر مثيلا لها من قبل. وقدّر بعض الملاحظين مجموع المتظاهرين المعارضين بما يناهز 33 مليون مصري. ونزول قرابة 33 مصري إلى الشارع يشبه استفتاءا شعبيا. وهؤلاء المتظاهرين يتجاوزون بكثير عدد المصريين الذين صوتوا لصالح الرئيس محمد مرسي في سنة 2012 (وهم قرابة 13 مليونا). وطالبت هذه المظاهرات ب «إسقاط حكم جماعة الاخوان المسلمين، وبرحيل الرئيس المنتخب محمد مرسي، وبتشكيل حكومة إئتلاف وطني تضم كفائات غير منحازة، وبتغيير الدستور الذي فرضته جماعة الاخوان المسلمين، وبتنظيم انتخابات برلمانية ورئاسية سابقة لأوانها». وهذه المطالب تعبّر عن رغبة غالبية شعب مصر في تغيير النظام السياسي الذي أقامته جماعة «الاخوان المسلمين»، أو دراعها السياسي «حزب الحرية والعدالة». وفي تلك المظاهرات المنتفضدة ضدّ استبداد «جماعة الاخوان المسلمين»، وضدّ هيمنتها على الدولة، شاركت كل من : «حركة تمرّد»، و«جبهة الانقاذ الوطني»، و«حركة 6 أبريل»، و«حزب النور» (ثاني أكبر حزب إسلامي وسلفي في مصر)، وحزب الوفد، وحزب الأصالة، وحزب الدستور، وأحزاب وجماعات وتيارات أخرى كثيرة (من تقدّميين، ويساريين، واشتراكيين، وليبيراليين، ومعتدلين، وعلمانيين، ومتديّنين، إلى آخره). وهذه المعارضة الواسعة ليست منسجمة، بل تتخلّلها تناقضات موضوعية كثيرة. والغريب العجيب، هو أن «جماعة الاخوان المسلمين» وأنصارها صفقوا للشعب ومجّدوه عندما صوت بالأغلبية لصالحهم (في انتخابات سنة 2012)، لكن حينما ثارت أغلبية الشعب ضدهم (في سنة 2013)، وطالبت بإسقاط نظامهم السياسي، اعتبروا هذه الأغلبية من الشعب مجرد «مشاغبين»، و«متآمرين»، و«انقلابيين»، و«خارجين عن الشرعية القانونية» ! وكرّرت «جماعة الاخوان المسلمين» وأنصارها نفس الخطاب الذي كان يقوله أنصار الرئيس حسني مبارك في يناير 2011 حول ضرورة احترام «الشرعية الدستورية» ! ورفض الرئيس محمد مرسي، و«جماعة الاخوان المسلمين»، وأنصارهم، رفضوا كلهم الاعتراف بوجود ثورة مجتمعية ! وأصبحوا فجأة محافظين جدا. كأنهم غير قادرين على فهم الأوضاع القائمة في مصر. بل اعتبروا هذه المظاهرات العارمة مجرّد «نتيجة لتأثير وسائل الاعلام»، أو مجرد «مؤامرة»، أو «انقلاب على الشرعية القانونية والدستورية» ! وتوعدوا معارضيهم بمواجهات ساحقة ! وجاء بعض أفراد «الاخوان المسلمين» إلى المظاهرات يحملون العصي، وخوذات الرأس، بل حمل بعضهم أسلحة الكلاشنكوف ! ونظموا هجوما بالأسلحة (في 8 يوليوز 2013) على «دار الحرس الجمهوري» بالقاهرة، حيث كانوا يظنون أن الرئيس مرسي محتجز فيها ! وفي سيناء، قامت جماعات ''إسلامية'' تابعة للإخوان المسلمين بهجومات مسلحة على عساكر وقتلهم ! وذلك رغم أن الملايين التي تطالب بإسقاط محمد مرسي (في سنة 2013) هي أكبر بكثير من المظاهرات التي أسقطت حسني مبارك (في 2011) ! وأمام مسجد «رابعة العدوية» في القاهرة، خرجت مظاهرة مضادة، تجمّع فيها أنصار «جماعة الاخوان المسلمين». وكان حجم هذه المظاهرة أقل بكثير من مظاهرة «ميدان التحرير» المتزامنة معها. حيث أن شعبية «الاخوان المسلمين» تآكلت منذ صعودهم إلى الحكم قبل عام. وعبّر هؤلاء المتظاهرون (الموالون للاخوان المسلمين) عن «تمسكهم بالشرعية القانونية»، ونادوا «بضرورة احترام الشرعية الدستورية»، وطرحوا أنهم «لن يقبلوا سوى محمد مرسي رئيسا للجمهورة» المصرية، وأن كل من خالف ذلك فهو «خارج عن القانون»، ويجب الكفاح أو «الجهاد» ضده. ولجأ قادة «الاخوان المسلمين» إلى التحريض على العنف. وصرح محمد مرسي نفسه على التلفزة : «سأموت واقفا». وفي يوم 3 يوليوز 2013، قال مرسي في إحدى خطبه : «إن هكذا انقلاب لن يمر دون إراقة الدماء... أتوجه لقوات الأمن وإلى القوات المسلحة للحفاظ على الشرعية الدستورية». بينما المعارضون لهيمنة حكم «جماعة الاخوان المسلمين» يرفضون استمرار محمد مرسي في الحكم، ويطالبون بتغيير فوري في النظام السياسي القائم. وكان الجيش قد أعلن (في 2 يوليوز 2013)، في بيان رسمي تلاه وزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة عبد الفتاح السيسي، أنه يعطي للرئيس محمد مرسي مهلة 48 ساعة لكي يستجيب لمطالب الشعب الثائر، ولاقتسام السلطة مع المعارضة، وإلا فإن الجيش سوف يعلن «خطة» لمعالجة المشاكل القائمة. فلمّا أصر الرئيس محمد مرسي على رفضه، أعلن رسميا الجيش عن «خارطة الطريق». ومضمون هذه «الخطة» ليس من وضع الجيش، وإنما هو في الأصل من اقتراح «حركة تمرد» الشبابية. وقد ساند الخطوط العريضة لهذه «الخطة» مجمل القوى السياسية الأخرى المشاركة في مظاهرة «ميدان التحرير»، بالإضافة إلى حزب النور ''السلفي''، وشيخ الأزهر، وبابا الكنيسة القبطية تواضروس. وبعد هذه الأحداث الثورية، طرحت داخل مصر وخارجها التساءلات التالية : هل ما يحدث في مصر (في يليوز – تموز 2013) هو انقلاب عسكري أم ثورة مجتمعية ؟ ما هي الشرعية المقبولة التي يجب احترامها، هل هي شرعية الرئيس المنتخب محمد مرسي أم شرعية الشعب الذي ثار ضده ؟ هل الشرعية القانونية أم الشرعية الثورية ؟ هل شرعية الانتخابات أم شرعية الشعب المنتفض ؟ ولتحليل هذه المسألة، يجب مراعاة العناصر التالية: أ)- يجب أن يعترف المرء أن الشرعية الثورية التي برّرت إسقاط الرئيس المنتخب حسني مبارك (في 25 يناير 2011)، هي نفس الشرعية الثورية التي تبرر إسقاط الرئيس المنتخب محمد مرسي (في 3 يوليوز – حزيران 2013). ب)- التشبّت المطلق بالشرعية الدستورية يؤدي في نفس الوقت إلى تبرير استمرارية مشروعية الرئيس حسني مبارك. لأن حسني مبارك (في يناير 2011) كان هو أيضا الرئيس الشرعي المنتخب. ورغم ذلك، طرده الشعب. التمسك بالشرعية القانونية للرئيس المنتخب محمد مرسي (في 3 يوليوز 2013) يفرض منطقيا التمسك أيضا بنفس الشرعية القانونية لصالح الرئيس المنتخب حسني مبارك (في 25 يناير 2011). وفي هذه الحالة، فإن شرعية الرئيس حسني مبارك تلغي بالضرورة شرعية الرئيس محمد مرسي. وإلا، يزول الاحتكام للمباديء، ويزول المنطق، ويزول الانسجام، وتزول المصداقية، وتحل محلّها الانتهازية التي لا تلتزم بأي منطق، ولا بأي مبدأ، وإنما تبحث فقط عن خدمة المصالح الخاصة، دون مراعاة أي شيء آخر. ت)- الشرعية لا تأتي فقط من صناديق الاقتراع، بل تأتي أساسا من الشعب ! والديمقراطية لا تنحصر في آلية صندوق الانتخابات. وكل مواطن أو مسئول سبق له أن فاز في انتخابات ماضية، لا يحق له أن يدّعي أنه يمتلك شرعية ثابتة، أو مطلقة، أو أبدية. ونتائج الانتخابات لا تبقى صالحة بلا نهاية عبر الزمان ! ومن فاز في انتخابات سابقة، لا يحق له أن يمارس مسئولياته وفقا لما يريده هو، وذلك حسب نزواته الشخصية، أو حسب مصالحه الخاصة، بل يتوجب عليه أن يلتزم بتنفيذ البرنامج الذي وعد الناخبين بإنجازه. وهذا البرنامج هو «تعاقد» بين المنتخَب والناخبين. وإذا ما خرج المنتخَب عن حدود ذلك البرنامج (التعاقد)، تصبح شرعيته الانتخابية ملغاة ! زيادة على ذلك، يجب على كل من سبق له أن فاز في الانتخابات أن يبقى خاضعا لإرادة الشعب، ولو أن هذه الإرادة الشعبية تتغيّر وتتطوّر باستمرار ! لأن جوهر الديمقراطية هو أن الشعب، الحر في تفكيره وفي سلوكه، يبقى هو المصدر الوحيد لكل سيادة، ولكل سلطة، ولكل شرعية ! فلا يحق لأحد أن يسيطر على الشعب، أو أن يضطهده، أو أن يقمعه، أو أن يلغي حقوقه، أو أن يقمع حرياته، وذلك بدعوى أنه حصل على أغلبية الأصوات في انتخابات (رئاسية أو برلمانية أو محلية) سابقة ! وعلى ما يظهر، فإن الدول الغربية (مثل الولاياتالمتحدةالأمريكية، وفرنسا، وابريطانيا، وألمانيا، إلى آخره) التي صرحت خلال الأيام الأولى لشهر يليوز 2013 أنها «تعارض تدخل الجيش المصري في الشأن السياسي»، لم تفهم جيدا الإشكالية المطروحة في مصر. وهذه الدول تعطي الأسبقية لمصالحها الخاصة، وليس لمصالح الشعب المصري. وكثيرون آخرون لم يدركوا أن الجيش المصري تطور نسبيا. حيث أن الجيش المصري في سنة 2013 يختلف نسبيا عن الجيش الذي عرفناه قبل يناير 2011. كما أن الشرطة كذلك تعيّرت نسبيا. ث)- الفاعل الذي أسقط الرئيس محمد مرسي، ليس هو الجيش، وإنما هو المظاهرات الشعبية المليونية المتوالية (التي حدثت في مصر بين 30 يونيو، و 3 يوليز 2013). وذلك تماما مثلما أسقطت المظاهرات من قبل الرئيس حسني مبارك (في 25 يناير 2011). ولولا هذه المظاهرات لما تستطاع الجيش أن يتدخل. والجيش لم يدع إلى هذه المظاهرات، ولم يوافق عليها، ولم يشارك في تنظيمها. ولكن حينما لاحظ قادة الجيش (بطائراته المرواحية) أن هذه المظاهرات تضم غالبية الشعب المصري (أكثر من 30 مليون)، عبّر الجيش رسميا عن انحيازه إلى جانب الشعب. وكل من يدعي أنه ليس من حق الجيش أن ينحاز إلى جانب الشعب الثائر، فإنه قد يريد من الجيش أن ينحاز إلى صف «جماعة الاخوان المسلمين» المستبدة بالحكم. كما أن الذين يريدون من الجيش أن لا ينحاز إلى أي طرف، لا يراعون الأخطار الجسيمة التي تحدق بأمن البلاد واستقراره في حالة إذا ما لم يتدخل الجيش بسرعة لوقف تدهور الأوضاع في البلاد. وليس هناك خيار واقعي آخر غير تدخل الجيش. فإما تدخل الجيش، وإما اندلاع حرب أهلية (مثلما حدث في سوريا). ومصلحة الشعب تكمن في أن ينحاز الجيش إلى جانب الثورة الشعبية، وليس إلى جانب أعداء هذه الثورة الشعبية. فالجيش إصطف لاحقا إلى جانب هذه المظاهرات الشعبية العارمة، ولو أنه لم يكن ضمن الداعين إليها. فالجيش إلتحق بالشعب المطالب بالديمقراطية، ولم يكن هو المبادر السبّاق إلى النطق بهذه المطالب. أي أن الجيش لم يدع إلى الانقلاب، أو إلى الثورة ضد حكم «الاخوان المسلمين»، ولكن الجيش إلتحق بالثورة المناهضة لهيمنة «الاخوان المسلمين»، وذلك بعد قيام هذه الثورة. ويهدف الجيش من خلال تدخله إلى إنقاد البلاد أكثر ممّا يهدف إلى مناصرة الثورة الديمقراطية. ج)- والجيش لم يقم بانقلاب عسكري. لماذا ؟ لأن الجيش إكتفى بالإلتحاق بعمل ثوري كان جاريا. والجيش لم يبادر إلى الدعوة إلى التظاهر، أو إلى الثورة، وإنما إنحاز إلى جانب الجماهير المحتشدة في ساحة «ميدان التحرير»، وفي عدة مدن مصرية أخرى. واعتبر الجيش أنه لا يعقل أن تستمر البلاد في هذه الأوضاع المحتقنة، لأنها تهدد الأمن القومي. والأمن القومي هو من مسئولية الجيش، بل هي مبرر وجوده. وأحس الجيش بواجب التدخل السريع للفصل بين أنصار الرئيس ومعارضيه، ولإنقاد البلاد من انتشار العنف والعنف المضاد، ولتلافي انهيار الدولة (في بلد ال 80 مليون نسمة). وكان تدخل الجيش هو الحل الواقعي الوحيد لتلافي اشتعال حرب أهلية. وأعلن الجيش (على لسان وزير الدفاع ورئيس القوات المسلحة عبد الفتاح السيسي) بوضوح أنه يتبنى مطالب الشعب الثائر. وحقوق المواطنة تعطي إلى أفراد الجيش هذا الحق السياسي. ما معنى الانقلاب العسكري؟ الانقلاب العسكري هو استيلاء جماعة من الجيش على الحكم بالقوة، والاطاحة بالحكم السابق، والانفراد بممارسة مختلف السلطات، في غياب استشارة الشعب أو موافقته. فهل هذا هو ما حدث في مصر في سنة 2013 ؟ في الواقع، لم يستول الجيش فورا على الحكم، ولم يسيطر على مؤسسات الدولة الأساسية، ولم يشرع في ممارسة السلطات، مثلما يحدث عادة في مجمل الانقلابات العسكرية. ولم يعيّن الجيش رئيسا للجمهورية من بين ضباطه، ولم يشكّل حكومة مكوّنة من أفراد من الجيش. وإنما طبق الدستور، حيث عيّن رئيس المحكمة الدستورية العليا (عدلي منصور) كرئيس مؤقت للجمهورية لكي يقوم بتدبير المرحلة الانتقالية (وتقدّر ب 6 أشهر). ولم يعتقل الجيش كل المسئولين ''الاسلاميين'' المشاركين في الكحم. ولكنه تشاور مع مختلف القوى السياسية التي قبلت بهذا التشاور (بينما «حزب الحرية والعدالة»، أي «الاخوان المسلمين»، رفضوا الاستجابة لهذه المشاورات). ثم أعلن الجيش عن «خارطة طريق». وأهم بنودها هي التالية : إزاحة محمد مرسي من رئاسة الجمهورية، وتعليق العمل بالدستور الذي فرضه «الاخوان المسلمون»، وحل مجلس النواب الذي يسيطر عليه «الاخوان المسلمون»، وتشكيل حكومة إئتلاف وطني مكونة من كفاءات، حكومة تحظى بجميع الصلاحيات، وتنظيم لجنة لتحقيق المصالحة الوطنية، وتكوين لجنة تضم كافة الأطياف لتدرس التعديلات التي يمكن إدخالها على الدستور المعطّل، ووضع قانون للإنتخابات المقبلة، وتنظيم استفتاء على دستور توافقي جديد، وانتخاب مجلس النواب، وانتخاب رئيس الجمهورية، إلى آخره. وهذه الإجراءات أو المهام هي نفسها التي طرحت سابقا بعد سقوط الرئيس حسني مبارك. ورحب المتظاهرون، وكذلك الشعب المصري الثائر بمبادرة الجيش، وعبروا عن تعاطفهم مع جيشهم الوطني. وظهر أن الجيش يريد حل الأزمة، وليس الاستيلاء على الحكم. وقال بعض العارفين بشؤون الجيش المصري أنه يستحضر في تفكيره خطر سيناريو الحرب الأهلية التي وقعت في الجزائر (بين سنتي 1992 و2002)، وأنه واع بأن انشغال الجيش بالسياسة يضعف جاهزيته القتالية. واكتفى الجيش باعتقال أو احتجاز زعماء الاخوان المسلمين الذين «يحرضون على العنف»، أو الذين يدعون إلى خوض «الجهاد» ضد الثوار، أو ضد الجيش. ومنع الجيش مؤقتا بعض المسئولين لدى ''الاخوان'' من السفر إلى الخارج (ربما كانوا يبحثون عن إعانات أجنبية). وأغلق الجيش القنوات التلفزية (التابعة للاخوان المسلمين، مثل قناة «مصر 25»(1)) التي «تحرض على العنف»، أو على شنّ «حرب أهلية». وقد ورد في أخبار بعض المصادر أن بعض زعماء «الاخوان المسلمين» يستعدّون للمواجهة العنيفة، ويتشاورون فيما بينهم على إمكانية إنشاء «مجلس حربي» خاص بهم. ح)- ورغم أن الجماهير المصرية الثائرة صادقت على «خارطة الطريق» التي طرحها الجيش، فإن هته الجماهير لا زالت تحتاط من احتمال عودة العسكر إلى الهيمنة على الحكم. ومن باب الافتراض النظري، ليس مستحيلا أن تدفع الأحداث فيما بعد الجيش إلى الاستيلاء على السلطة، بسبب فراغ الساحة السياسية من فاعل سياسي آخر قادر على تولي تدبير أمور الدولة. لكن مجمل الملاحظين يقرون أن الجيش لم يخطط للسيطرة على الحكم أو لاحتكاره. وفي حالة إذا ما عاد الجيش إلى الاستيلاء على الدولة، وإلى احتكار السلطة، وإلى فرض هيمنته على المجتمع، فإن الشعب الذي أسقط استبداد حسني مبارك، ثم أسقط استبداد محمد مرسي، قادر على خوض الثورة مرة أخرى ضد هذا الاستبداد المحتمل الجديد للجيش. خ)- إن إزاحة محمد مرسي من رئاسة الجمهورية لا تعني بالضرورة إقصاء تيار الاخوان المسلمين من الحكم. وإنما تعني منعهم من بناء هيمنتهم الطويلة الأمد على السلطة، وعلى الدولة، وعلى مؤسساتها. فقد عبّر مجمل الفاعلين السياسيين، بما فيهم الجيش، على ضرورة إشراك ''الاخوان المسلمين'' في الحياة السياسية للبلاد، عبر آلية جديدة تفصل بين العمل الديني الدعوي والعمل السياسي. وما دامت التيارات الاسلامية تحظى بتأييد فئات شعبية هامة، فإنه لا يحق لأي فاعل سياسي أن يتجاهل هذه التيارات الاسلامية، أو أن يحرمها من حق المشاركة في مؤسسات الدولة . د)- وأثناء ممارسته للحكم، إرتكب الرئيس محمد مرسي، ومعه «جماعة الاخوان المسلمين»، عدة أخطاء سياسية جسيمة، وتكاثر هذه الأخطاء هو الذي دفع الشعب إلى التمرّد، وعجّل بالثورة. وأبرز هذه الأخطاء ما يلي : عدم التزام «الاخوان المسلمين» باحترام قواعد اللعبة الديمقراطية؛ عجز في تسيير البلاد؛ كان محمد مرسي ''دمية'' لمكتب الإرشاد لدى ''جماعة الاخوان المسلمين''؛ إعادة إنتاج الاستبداد القديم؛ إقصاء الفاعلين السياسيين الذين يخالفون «الاخوان المسلمين» في الرأي أو في المعتقدات؛ الميول إلى فرض حكم الفرد الواحد؛ تصرف الرئيس مرسي كزعيم لتيار واحد، وليس كرئيس لكل المصريين؛ استغلال الدين في السياسة؛ تبرير مواقف سياسية بإرادة إلاهية؛ تهجّم الرئيس مرسي على استقلالية القضاء؛ وقام مرسي بانقلاب على المحكمة الدستورية؛ وغيّر النائب العام؛ وأصدر إعلانا دستوريا يتناقض مع الدستور؛ لجأ الرئيس مرسي إلى تحصين قراراته؛ عجز في مجال إدارة سيناء؛ عجز في توفير البنزين والكهرباء؛ يشتكي الفاعلون السياسيون من أن «الاخوان المسلمين» كانوا يتفقون معهم على أشياء ثم يفعلون أشياء أخرى؛ إتهام «الاخوان المسلمين» بممارسة المُراوبة والكذب؛ حتى ''حزب النور'' السلفي يشتكي من انتهازية «الاخوان المسلمين»؛ «الاخوان المسلمون» يحلمون بإقامة «نظام خلافة إسلامية» في مصر؛ المسئولون في الدولة الذين ينتمون إلى «الاخوان المسلمين» يعطون الأسبقية لخدمة مصالحهم الحزبية الخاصة على خدمة مصالح عموم الشعب؛ إتخاذ إجراءات قمعية متعددة؛ قتل عدد من الشبان أمام قصر مرسي؛ تزوير بعض الانتخابات؛ جمع الرئيس مرسي في يده سلطات كثيرة؛ محاولة بناء دولة دينية بدلا من دولة مدنية؛ محاولة ''أخونة'' الدولة عبر تعيين أنصار الاخوان في الوزارات والمحافظات؛ تحدث مرسي عن إمكانية مشاركة مصر في «الجهاد»(2) في سوريا إلى جانب التيارات ''الاسلامية'' بهدف إسقاط الرئيس السوري بشار الأسد؛ إثارة طائفية السنّة ضد الشيعة؛ أثار مرسي احتمال اللجوء الى عمل عسكري لمنع بناء سدّ تبنيه إثيوبيا على نهر النيل؛ المخاطرة بإشراك الجيش في صراعات في المنطقة دون التشاور مسبقا مع قيادة الجيش؛ إلى آخره. يتضح ممّا سبق ما يلي : 1) أن الثورة تحدث دائما ضد شرعية قانونية أو انتخابية قديمة. 2) أن التقيد المطلق بشرعية قانونية أو انتخابية قديمة يُعدم إمكانية قيام أية ثورة سياسية. 3) عندما تحدث ثورة جديدة فإنها تأتي بشرعية قانونية أو انتخابية جديدة. 4) أن الشرعية القانونية، أو شرعية الانتخابات، تكون قائمة ما دام الشعب راض عن الأوضاع الموجودة، أو منصرف إلى أعماله اليومية الاعتيادية. لكن حينما يخرج المسئول المنتخَب عن حدود البرنامج (التعاقد) الذي تعهّد به أمام الناخبين، أو حينما يثور الشعب ضد تدبير أو سياسات هذا المسئول المعني، فإن الشرعية القانونية، أو شرعية الانتخابات، تصبح فورا متجاوزة، بل لاغية، فترجع الكلمة للشعب، ويغدو الشعب من جديد هو المصدر الوحيد للسيادة، وللسلطة، وللقوانين. خلاصة هذه المسألة : المجتمع يتطور باستمرار، ويعيش أزمنة متوالية ومختلفة. وكل زمان (من بين أزمنة المجتمع) له شرعيته. في زمان السلم، أو الاستقرار، تقوم شرعية القانون، أو شرعية الانتخابات. وعندما يحتدم الصراع الطبقي، أو تتأزم أوضاع المجتمع، تنهض حركات ثورية، أو تنفجر ثورة سياسية وثقافية، فتسقط شرعية القانون السابقة، وتبطل شرعية الانتخابات الماضية، وتقوم مقامها شرعية الثورة الجديدة، فتحقق الثورة طموحاتها، وتشيّد هذه الثورة مؤسسات نظام سياسي جديد. ثم تستنفد الثورة مهامها، وتتجسّد شرعية الثورة الحديثة في قوانين جديدة وثابتة، وتحل محل شرعية الثورة المنتهية شرعية قانونية جديدة، أو تعوّضها شرعية الانتخابات الحديثة.