هل كانت الثورة المصرية قانونية؟ هل كان تظاهر ملايين المصريين من أجل خلع مبارك تصرفاً دستورياً؟ ألم يكن حسني مبارك عندما قامت الثورة، من الناحية القانونية، رئيساً شرعياً منتخباً؟ كل ما حدث في الثورة المصرية كان مخالفاً للقانون. لقد قامت الثورة أساساً ضد انتخابات مبارك المزورة وقوانينه الظالمة ودستوره الفاسد. لو كان دستور مبارك معبراً عن الارادة الشعبية، ولو كانت قوانين مبارك عادلة لما احتاج المصريون الى الثورة. الثورة دائماً تقوم لإسقاط النظام الظالم بقوانينه ودستوره، ثم تنتقل السلطة الى الشعب الثائر ليمارس بالشرعية الدستورية، تطهير الدولة من الفاسدين، ثم يتم انتخاب جمعية تأسيسية لكتابة دستور جديد، يعبر عن أهداف الثورة ويتم تشريع منظومة قوانين جديدة تحقق العدالة التي قامت الثورة من أجلها. هذا ما فعلته الثورات جميعاً خلال التاريخ الانساني. أما الثورة المصرية فقد نجحت في خلع مبارك، ولم تنجح حتى الآن في إسقاط نظام مبارك. اتفق المجلس العسكري مع «الإخوان المسلمين» على الإبقاء على النظام القديم وبدلاً من إلغاء الدستور القديم، تم تقديم التعديلات الدستورية ذاتها التي اقترحها مبارك، وعين العسكر لجنة تعديلات تضم رجال قانون تابعين لنظام مبارك وآخرين ينتمون الى «الإخوان المسلمين». أذكر أنني اتصلت بأحد أعضاء اللجنة، وهو أستاذ قانون معروف بانتمائه ل«الإخوان».. سألته مباشرة: لماذا تريدون تعديل الدستور القديم الذى أسقطته الثورة، أليس الواجب أن تكتب الثورة دستوراً جديداً معبراً عنها؟ وافقني على رأيي، ثم قال كلاماً كثيراً لتبرير التعديلات الدستورية، وبعد حوار طويل قال لي بوضوح: الشرعية انتقلت من الثورة الى المجلس العسكري وله الآن أن يفعل ما يشاء. شيئاً فشيئاً اتضحت الصفقة بين «الإخوان» و«العسكر». المجلس العسكري المعادي للثورة، الذي يريد القضاء عليها بأي طريقة، وجد في «الإخوان» حليفاً منظماً قادراً على حشد البسطاء عن طريق خطباء المساجد ورشى الزيت والسكر ليصوتوا بما يريده المجلس العسكري، و«الإخوان» المتعطشون للسلطة بأي طريقة تحالفوا مع العسكر لكي يضمنوا الوصول الى الحكم. «الإخوان» انقلبوا على الثورة وتخلوا عن أهدافها ونادوا بالانتخابات أولا حتى يتمكنوا من كتابة الدستور الذي يريدون... من أجل كسر ارادة الثوريين، تسبب المجلس العسكري في مذابح عديدة راح ضحيتها مئات الشهداء وآلاف الجرحى، وسط مباركة اخوانية كاملة، لدرجة أن رموز «الإخوان» لعنوا الثوار واتهموهم بالبلطجة.. في النهاية حدث الخلاف بين «العسكر» و«الإخوان»، وتم حل مجلس الشعب ووجد المصريون أنفسهم في انتخابات الرئاسة مضطرين اضطراراً الى انتخاب الرئيس مرسي، ليس حباً في «الإخوان» ولا اقتناعاً بأفكارهم، وانما من أجل حماية الثورة وإسقاط أحمد شفيق، تلميذ مبارك المخلص. بعد ثلاثة أشهر من حكم الرئيس مرسي نراه للأسف يبتعد عن تحقيق أهداف الثورة ويعقد تحالفاً مع فلول نظام مبارك لمصلحة «الاخوان». في وسط هذا المشهد المضطرب، جاءت أزمة النائب العام عبد المجيد محمود. تحدث معه مستشارو الرئيس وعرضوا عليه بشكل ودي تقديم استقالته، على أن يتولى منصب سفير مصر في الفاتيكان. وافق النائب العام وطلب أن يكون سفيراً في بلاد عربية لأنه لا يجيد اللغات. وفي اليوم التالي غير النائب العام رأيه وأعلن أنه متمسك بمنصبه، واعتبر مكالمة مستشاري الرئيس تهديداً له وتعدياً على استقلال القضاء. وتضامن مع النائب العام كثيرون. بعضهم ثوريون يخشون من سيطرة «الإخوان» على القضاء، ومعظمهم فلول النظام القديم الذين يشكل بقاء النائب العام أكبر ضمانة لحمايتهم من المحاسبة عما اقترفوه في عهد مبارك. عبد المجيد محمود اختاره حسني مبارك وأحضره من نيابة أمن الدولة، التي عمل فيها سنوات طويلة، ليعينه نائباً عاماً. سأستشهد هنا بما أعلنه مركز «النديم» لمناهضة التعذيب الذي أصدر بياناً قال فيه: «إن مركز النديم استقبل الآلاف من حالات التعذيب والتي دأب مكتب النائب العام عبد المجيد محمود على إغلاق ملفاتها واحداً تلو الآخر بقرار لا يقبل الطعن به، وذلك بأن يُحفظ «لعدم كفاية الأدلة»، وبذلك حرم آلاف الضحايا من الوصول إلى ساحة المحاكم بحثاً عن العدالة». هذا بخلاف عشرات القضايا التي أخضعها النائب العام لمواءمات سياسية، مثل قضية «عبّارة الموت»، وقتل المتظاهرين وقضايا فساد أحمد شفيق وغيرها. فلنتوقف اذن عن ربط النائب العام باستقلال القضاء. إن بقاء النائب العام قي منصبه ليس انتصاراً لاستقلال القضاء وإنما انتصار لنظام مبارك الذي استطاع أن يفرض أحد أهم رموزه في منصبه لأربعة أعوام قادمة، بكل ما يعني ذلك من المواءمات السياسية التي ستمنع أي تغيير ثوري أو أية محاسبة جادة للفاسدين. هؤلاء الغاضبون لاستقلال القضاء، أين كانوا عندما انتهكت الولاياتالمتحدة سيادة مصر، وانصاع لها المجلس العسكري، وقام المستشار عبد المعز بعقد محكمة خاصة من أجل الإفراج عن المتهمين الأميركيين؟ العجيب أن الذين هللوا لبقاء النائب العام هم أنفسهم الذين منعوا إقالة المستشار عبد المعز أو محاسبته على تهريب المتهمين الأميركيين.. أنصار استقلال القضاء لماذا لم نسمع آراءهم في انتداب بعض القضاة في الوزارات مقابل مكافآت سخية، بينما هم يفصلون في قضايا قد يكون منها ما يخص الوزارات التي يعملون فيها؟ ما رأيهم في بعض القضاة الذين شاركوا في تزوير الانتخابات، وما رأيهم في تعيين أولاد بعض المستشارين في النيابة بتقدير مقبول ومنع المتفوقين من أبناء العامة.. معظم القضاة في مصر شرفاء مستقلون من وحي ضمائرهم، لكن النظام القضائي في مصر ليس مستقلا ولا يمكن أن يكون النائب العام الذي أهدر حقوق الشهداء نموذجاً لأي قضاء مستقل... تغيير النائب العام كان هدفاً أصيلا من أهداف الثورة. لماذا إذن عندما حاول الرئيس مرسي إقالة النائب العام انقلبت عليه الدنيا وهاجمه الجميع بمن فيهم بعض الثوار؟ السبب انعدام الثقة بين الرئيس مرسي والقوى الثورية. الثوار يذكرون جيداً تاريخ «الإخوان» في الصفقات الانتهازية وتخليهم عن الثورة من أجل مصالحهم، كما أن العلاقة بين الرئيس وتنظيم «الإخوان المسلمين» غامضة تماماً. لا يعرف أحد فعلا إن كان الرئيس مرسي يتخذ قراره بنفسه أم أنه ينفذ تعليمات مرشد الإخوان؟ لماذا كرّم الرئيس مرسي المستشار عبد المعز الذي ارتبط بفضيحة تهريب المتهمين الأميركيين؟ لماذا كرّم الرئيس مرسي المشير طنطاوي والفريق عنان بدلا من محاكمتهما، وهل ما حدث صفقة للخروج الآمن، ولماذا لم يتم التحقيق في المذابح التي قام بها المجلس العسكري؟ لماذا امتنع الرئيس مرسي عن تطهير وزارة الداخلية، بل انه احتفى باللواءات الموالين لنظام مبارك، واختار منهم وزير الداخلية أحمد جمال الدين، وهو المسؤول عن مذبحة محمد محمود، لكن الرئيس مرسي وبدلا من محاكمته قلده الوزارة ليضمن ولاءه ل«الإخوان»؟ لماذا أبقى الرئيس على جهاز الأمن الوطني ولم يلغه أو يجعل منه وحدة لجمع المعلومات، كما طلبت الثورة، ولماذا اختار الرئيس اللواء خالد ثروت المسؤول عن ملف «الإخوان» ليكون رئيساً لجهاز الأمن الوطني؟ لماذا لم يلغ الرئيس مرسي وزارة الاعلام كما طالبت الثورة، بل وضع على رأسها أحد «الإخوان المسلمين» الذي يتلخص دوره حتى الآن في قمع كل من ينتقد «الإخوان»؟ معظم القرارات التي اتخذها الرئيس مرسي لا تفيد الثورة بل تهدر أهدافها وتعقد ارتباطاً جديداً بين «الإخوان» ونظام مبارك. أليس من حق الناس بعد كل ذلك أن يتشككوا في الغرض من قرارات الرئيس؟! إقالة النائب العام مطلب شعبي، كيف ينجزه الرئيس بيد وهو بيده الأخرى يهدر أهداف الثورة لصالح «الإخوان المسلمين»... لا يمكن للرئيس مرسي أن يخدم سيدين (كما قال الإنجيل). لا يمكن للرئيس أن يكون مخلصاً لأهداف الثورة ومصالح الإخوان في الوقت نفسه. إن ما حدث يوم الجمعة الماضي أكبر دليل على هذا التناقض، فبينما الرئيس مرسي يحاول إقالة النائب العام حشدت جماعة «الإخوان المسلمين» الآلاف من أنصارها فاعتدوا بطريقة همجية وفاشية على الثوريين.. هذا التخبط هو الذي أفقد الرئيس الدعم الشعبي، وجعله يخسر معركة النائب العام، ولسوف تتوالى خسائره إن لم يأخذ قراره بوضوح. على الرئيس أن يختار، إما أن يكون مندوب المرشد في رئاسة الجمهورية فيعمل لصالح «الإخوان المسلمين» وإما أن يكون رئيساً للمصريين يتبنى تحقيق أهداف الثورة حتى لو خالفت مصلحة «الاخوان».. لا زالت أمام الرئيس فرصة لعلها تكون الأخيرة، لاصلاح المسار والانحياز للثورة وذلك بتحقيق الخطوات التالية: أولاً: تقنين أوضاع جماعة «الإخوان المسلمين» وإعلان ميزانيتها وإخضاع تمويلها لرقابة الدولة ومنع تدخل قياديي الجماعة في شؤون الدولة ما داموا لا يشغلون مناصب رسمية. ثانياً: إجراء حركة تطهير شامل في أجهزة الدولة، وأولها وزارة الداخلية، التي يقودها حتى الآن لواءات العادلي المسؤولون عن القمع والفساد وقتل الثوار والانفلات الأمني. ثالثاً: محاكمة المشير طنطاوي والفريق عنان واللواء حمدي بدين واللواء حسن الرويني المسؤولين عن المذابح المتعاقبة التي راح ضحيتها مئات الشهداء. رابعاً: تكوين محاكم خاصة للثورة بالتنسيق مع المجلس الأعلى للقضاء، تتولى التحقيق في المذابح وقتل المتظاهرين، ويمنح أعضاؤها من القضاة سلطة التحقيق مع العسكريين والمدنيين من أجل تحقيق العدالة الحقيقية. خامساً: تنفيذ الوعد الرئاسي بإعادة التوازن الى اللجنة التأسيسية للدستور، وذلك بضم عدد مناسب من ممثلي القوى الديموقراطية والثورية وإعطائهم حق التصويت حتى يخرج الدستور معبراً عن إرادة المصريين جميعاً. سادساً: تحقيق العدالة الاجتماعية، وذلك بتطبيق الحد الأقصى والأدنى للأجور، وضم أموال الصناديق الخاصة الى خزانة الدولة، واعتماد سياسة الضرائب التصاعدية على الأغنياء، وإلغاء دعم الخدمات (الغاز والكهرباء والماء) عن المصانع التي تبيع منتجاتها بالاسعار العالمية. هذه الاجراءات ستوفر للدولة مليارات الجنيهات، وربما تغني الرئيس عن الاقتراض من الخارج. سابعاً: إلغاء وزارة الإعلام وتحقيق الاستقلال للمؤسسات الصحافية، بدلاً من تبعيتها لمجلس الشورى، وإلغاء تهمة إهانة الرئيس، التي تستعمل في إرهاب المعارضين والتي تعتبر في حد ذاتها أكبر إهانة للرئيس. هذه أمثلة على خطوات عملية لتحقيق أهداف الثورة، لو أقدم عليها الرئيس مرسي سيحظى بتأييد جميع المصريين، أما لو استمر الرئيس في مهادنة النظام القديم لمصلحة «الإخوان المسلمين» فسوف يفقد كل شيء وبأسرع مما يتصور. الديموقراطية هي الحل