رمضان شهر التغيير الذي لا يقع، رغم ما يقوم به الناس من كثافة بعض العبادات وإحياء بعض السنن وتصحيح بعض السلوكات والمعاملات،وما يحققونه على إثر ذلك من بعض التراحم والتعاون والوحدة والتضامن الرمضاني على الأقل، فالواقع هو الواقع إن لم يكن في تراجع مستمر خاصة على مستوى الشعوب والأمم،و كأن الإنسان في صومه وصلاته وحجه وزكاته ومجمل عباداته لم يستطع بعد إحداث التغيير المطلوب والمناسب في اتجاه الشأن العام الذي ولاشك هو الباب الواسع لتحقيق الأمن الروحي والمادي للمواطنين،قال تعالى:"فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف"سورة قريش،يعني أن هناك خللا وتغاضيا عن وجه آخر من رمضان وهو كونه شهر التغيير والملاحم البطولية التي ينبغي أن تستمر وفي الاتجاه الصحيح لا في الموائد والمسلسلات الرمضانية التي أتخمت المسلمين وهم ربما لا يحتاجون منها حتى عشر معشارها،فأي صوم هذا الذي يقضي فيه المسلم ساعات طوال في المسلسلات والسهرات وهو لا يحتاج منها إلا لهنيهات ودقائق معدودات،وأي صوم هذا الذي يلتهم فيه المرء بشره أطنانا من السكريات والدهنيات وهو لا يحتاج منها إلا لبعض كرامات وحريرات يقمن صلبه،وما فضل منها يكون من حق السائلين والمحرومين والذين جعلناهم بتصرفنا هذا كأنهم مرضى يعانون من الضغط أو السكري ولا حاجة لهم بغير الجوع والحرمان ؟؟. ومن الاختلالات التي لم يفلح رمضان ولا غيره في معالجتها،هذه الأزمة السياسية المزمنة والمستفحلة في بلادنا كغيرها من بلدان العالم الثالث خاصة العربي والإفريقي والذي لا يتحرك إلا عند وقوع الأزمات والكوارث،وجل تدخلاته لا تعدو أن تكون معالجة المشاكل بمشاكل أكبر وكوارث بكوارث أفظع، ولعل أكبر مظاهر هذه السياسات الرديئة في مجملها تكمن في العبث بدل المقصد والمنطق والارتجال بدل البرمجة والتخطيط والصراع الأناني الغوغائي بدل التعاون والتكامل،والتفرقة والخلاف والتبعية والتخلف بدل الوحدة والإتلاف والاستقلالية والتقدم، لتكون العملية في رمتها مجرد ريع وتحكم وفساد واستبداد ضد المصلحة العامة و خاصة للفئات المستحقة من كل الفئات الاجتماعية والسياسية وغيرها؟؟. ولإن تحدث الأقدمون في أساطيرهم عن "سيزيف" وصخرته العاتية التي كان يحملها من سفح الجبل إلى أعلاه وما أن يقترب من نقطة الوصول حتى تسقط منه بفعل القانون الكوني المتمثل في الجاذبية وتتدحرج إلى السفح،فيعيد "سيزيف" الكرة مرة أخرى وأخرى، فلا الصخرة تكف عن السقوط والدحرجة ولا "سيزيف" يكف عن حملها والصعود بها من جديد وفيما يمثل قمة العبث الأبدي والعذاب الصرمدي؟؟.ولإن تحدث الناس أيضا عن "دون كيشوط" الفارس الجوال والمصلح الاجتماعي في القرن السادس عشر وسيفه الخشبي ونزاله الأبدي مع الطواحن الهوائية (مصدر الشر والسحر وكافة أشكال الظلم في المجتمع (حسب اعتقاده) والتي تطال دوما الفقراء والمساكين واليتامى والأرامل)،فلا الطواحن تهدأ ولا المحارب الواهم يهادنها حتى لقي حتفه المرير على ألواحها ؟؟.فاليوم أيضا يبدو أن البشرية انتقلت من "سيزيف" اليوناني و"دون كيشوط" الاسباني إلى "سكليس" المغربي،ومن الأحجار الصماء والألواح العمياء إلى الدراجات البكماء،حيث من فرط حبه للرياضة أراد "سيكليسنا" أن ينظم طوافا للدراجات ولو في رمضان،طوافا وأي طواف حيث قرر أن يخترق المغرب طولا وعرضا بل ويمتد إلى بعض البلدان الصديقة على غرار رالي "باريس دكار" وإن أسماه هو رالي البطحاء أو"دكار دكارات" ولا وجه للمقارنة بينهما وقتا وتنظيما،وهدفا ومشاركة،فبالأحرى مردوية اجتماعية ورياضية واقتصادية وغيرها، وإليكم بعض التفاصيل ؟؟. أولا،لا أدري كيف أصر "سيكليس" في طوافه استعمال الدراجة الهوائية في عهد الدراجات النارية الفخمة والسيارات الوطنية الضخمة والطائرات السريعة والبواخر الأنيقة والعملاقة...وهو الذي ما فتىء يرفض على البلديات سياستها الرامية إلى تعميم الحافلات على المدن الشبه حضرية،ويعيب على القرويات جهودها الرامية إلى تسمين الحمير والبغال واستيراد "الكروسات" و"التراكتورات" للنقل القروي،متهما إياها بأن الأمر مجرد تجارة انتخابوية في بطاقات الإنعاش الوطني والسمسرة في أبطال"التبورضة" في السهول وأعالي الجبال؟؟.ثانيا، لا أدري لماذا رمضان بالذات،أغره كثرة البرامج التي تتحدث عن أبطال الرياضة في رمضان فأراد أن يكون واحدا منهم،أم غره أنه قد وزع من مال الفريق دجاجتين و"بدوزة" ماء على كل مشجع ومتسابق فاطمئن على صحتهم وسلامتهم خلال الطواف،أم غرته الفتوى الفضائية الفضفاضة لهذه الأيام والتي تقضي بوجوب إفطار اللاعبين في مبارياتهم ضد الخصم (العدو) نهار رمضان،وقضائهم أوفديتهم لما أفطروه متى شاءوا من بعد ؟؟. على أي ها هو الطواف الرالي قد بدأت تدور عجلاته في طرق غير معبدة وغير سالكة،لكن يحسبها البعض طرقا طبيعية رائعة سيارة وهي في الحقيقة طرقا غير وطنية ولا ثلاثية وغير مصنفة أصلا،وها هي دراجات المشاركين تصاب بأعطاب و أعطاب جراء ما تصطدم به من أحجار وأشواك وعصي وأسلاك تلفها وحفر وأكمات تقع فيها ولا تكاد تصعد،لذا فالمشاركون يتأخرون ووحده ال"سكليس" وبعض المنافسين يتقدمون،"سكليس" يستعرض عضلاته و يصرخ في وجه الجميع،لا يحترم طبيبا ولا يوقر مهندسا ولا يعرف لهاو ولا محترف قدرا،المهم أن ينتصر على الجميع،لذا فقد انسل مع أقوى المنافسين في كوكبة طليعة وبسرعة جنونية لا يحترمون فيها تشويرا طرقيا ولا توقفهم علامة مرور ولا إضاءة صفراء أو حمراء،ازداد التنافس والسرعة الجنونية فانسل من الكوكبة في البداية ال"سكليس" وحده، وبعد مسافة كاد يتوارى عنه كل المشاركين،خفض البطل من سرعته فما كان من أحد المنافسين إلا أن لحق به وكاد يتجاوزه في منحدر بكل سهولة لولا أن ال"سكليس" جاءه عنوة أمامه وحتى يتحاشاه الدراجي المسكين اضطر للانجراف إلى الحافة التي سقط في عمقها ولسوء حظه على صخرة مركزية صماء هشمت على ما يبدو خودته وربما جمجمته، وبدل أن يسعفه ال"سكليس" بكل إنسانية مفعمة نزل عنده وخطف منه بسرعة القميص"الأصفر" عفوا "الوردي" الذي ارتداه وتابع به سيره كالبطل الذي لا يقاوم. لحقت الكوكبة بالدراجي المنكوب فتوقفت كلها عنده تضمد جراحه،لكن هيهات هيهات فقد خارت قواه وسكنت أطرافه و وحدها بعض الأنفاس ما زالت تصعد مما جعل الطواف كله ينقلب مأتما وعزاء؟؟. وال"سكليس" وكأنه لا يدري بما وقع تابع طوافه منتشيا بسبقه التاريخي وغير المعهود في كل شيء،وها هو الآن على مشارف العاصمة الاقتصادية البيضاء،والتي لا يدري من أي باب سيدخلها.على أي قد سار فيها سير ابن الرومي في مدن الصفيح وهو يظن نفسه أو فاتح لها، طبعا وكالعادة لا يحترم تشويرا ولا توقفه علامة أو إضاءة،حتى الشرطة لا يمتثل لأمرها ولا يقر لها بمخالفة،بل بالعكس كان يصرخ في وجهها لماذا لم تخلي لطوافه الأزقة والشوارع وتنظم له المشجعين والمعجبين وتهيء له المكبرات والمنصات وتحضر له الفرق و"الشيخات"... وكم كان استغرابه عندما رأى المدينة كلها دراجات نارية وسيارات وحافلات وطرامواي حاول السير بسيره في اتجاهه وعكس اتجاهه،ولما أعياه الأمر سار على مساره فاصطدم به فتهشمت دراجته الهوائية ولم يستطع إصلاح برغ منها وهو الذي كان يظن أنه لا يعجزه شيء،كما كان يظن دراجته لا تقهرها مستحيلات ؟؟.ترجل ال"سكليس" قليلا وانتهى به السير إلى باحة الميناء في (casa port) وهناك رأى باخرة عملاقة تقلع وتمخر عباب البحر،وكم نادى عليها نداء المهاجرين السريين دون جدوى،بقي يرددها:"يا البابور... يا البابور..." حتى كاد يغمى عليه وهو الذي ظن أنه بدراجته التي تقهر المستحيلات لا ينبغي أن يرد له طلب؟؟.تعلق ال"سكليس" ب"البابور" دون جدوى، وانتظر الكوكبة دون جدوى،فلما أعياه التعلق والانتظار صعد منصة كانت هناك في المرسى ويبدو أنها لمركزية نقابة البحارة فبدأ يخطب في جماهير غير موجودة وبكل قاموسه الهجائي المعهود،على الكوكبة وعلى الدراجات،وعلى الإسعاف والطرقات،على الحكومة والبرلمان...على البيضاء والبطحاء حتى أصابه من نفسه على نفسه من شتم وضرب وصراخ ما أسقطه على المنصة كالمهزوم؟؟.وبينما هو كذلك صعدت من المطار قرب المرسى طائرة كادت تحلق رأسه فتعلق بها في حركة بهلوانية من حركات رعاة البقر التراجيدية لم تنته به إلا في عمق الصحراء ؟؟.تعب ال"سكليس" وخارت قواه فسقط من الطائرة وغار في الرمال من جمجمة رأسه إلى أخمص قدميه،فحسبها آخرة أواخره لولا أن القدر قد ساق إليه أمير قافلة الصحراء فأنقده من الرمضاء وأعتقه وضمد ما به من خيبة وجراح، أكرم وفادته وقدم إليه كوكبته التائهة وجمع له من الناس كل القبائل وأقام له المآدب والأفراح،فكان لابد أن يخطب في الناس ويقدم لهم الطواف الوطني وما يمكن أن يخدمه من المصالح والقضايا العامة وينسي القوم من المآسي والأتراح،لكن ال"سكليس" لم يقتنع بأي شيء غير الاستمرار في ملاقاة مآله وحتفه، فما أن أحس بنفسه قد استعاد صحته وعافيته حتى عاد إلى جنونه فأخذ يرعد ويزبد ويتوعد حتى ألزم أمير القافلة أن يتخلى له عن معزه وإبله وخيامه،فما كان مما تبقى من الكوكبة إلا أن انتفضت في وجهه وعبرت عن رفضها لسوء أدبه مع الأمير المضياف،وهددت بانسحابها من الطواف؟؟.وهنا نهض ال"السكليس" يستشفع فيهم الأمير الحاتمي ويقول :" لا..لا..لم تفهموني...لم تفهموني،أنا فقط أقول:" لابد أن ننهض ولا بد أن نتابع الطواف وإن على مثن الجمل والجمل سفينة الصحراء فالرالي لم ينته بعد ودكار لم نبلغها بعد،والناس هناك ينتظرون والواجب القومي والأممي قد نادى...،فلابد من تأسيس حزب الدراجات في الصومال ومالي وتمبوكتو والسينغال...ولتكن تومبكتو من تجيبوتي أو من مالي فلا بد أن أكون رئيس الحكومة الإلكترونية العالمية حتى لا ينفرد بها وحده ملك ملوك أفريقيا رحمة الله عليه، وعلى غرار رالي "باريس دكار" في أهدافه وأنشطته:"محفظة لكل تلميذ وحاسوب لكل جمعية ومعزة لكل قرية" نحن أيضا نعلنها "سكليسية"واضحة:"دراجة لكل مواطن ودجاجة لكل قبيلة و"بيدوزة ماء وزغاريت" لكل"زغراتة" ؟؟.وهكذا وافق القوم على الراي ف"شخدت" المهراجانات والطوافات على أشكالها ومهاناتها تقع،ولا زالت مأساة دفن الرؤوس في الخيبة هنا والرمال هناك إلى اليوم مستمرة ؟؟. وعود على بدء، وكما تحكي الأسطورة ف"سيزيف" كان حمله الأبدي للصخرة العاتية عقابا له من الآلهة،ولكونه خبيث ومغرور يدعي ألا أحد أحق منه بشيء ولا أحد أذكى منه في شيء ؟؟.و"دون كيشوط" حسب الرواية لمؤلفها ميغيل دي سرفانتس،فقد أصابه ما أصابه لاستنكافه عن القراءة وانقطاعه عن الواقع وتوهمه لما يريد كيفما يريد وسعيه الجامح لتحقيق وهم مستحيل على أرض الواقع ؟؟.أما "سكليسنا" فكلتا الطامتين مجتمعتين فيه مع الأسف،الخبث والغرور والوهم والجموح و"السنطيحة"،صحيح من حق المرء أن يمارس السياسة وكما يراها ولكن حتى "تسكليست" لها قواعدها الميكانيكية الكونية التي لا ترحم أحدا،فالبرغ الذي يدور على اليمين لا يمكن أن تديره أنت على اليسار،والعجلة التي تتقدم نحو الأمام لا يمكن أن ترجها أنت إلى الوراء إلا إذا كنت "سيزيف" أو"دون كيشوط" أو"سيكليس"؟؟.الصخرة يمكن أن تكون رمز الثروة لا يمكن لأحد بعد اليوم خطفها ولا احتكارها وستظل تسقط وتتدحرج نحو الشعب في السفح والأعماق ليس بقدرة قادر وعزم عازم وحكمة حكيم وحكم حاكم،ولكن لأن الله هكذا أراد فخلق من أجل ذلك قانون الجاذبية الكونية المسبب في سقوط كل شيء ودحرجته إلى مكانه ودورانه إلى أهله وركونه إليهم ؟؟.وطواحن الإصلاح ستظل تدور وتدور ما دام في الكون رياح، ورياح التغيير طاقة بديلة ستظل دائما تهب وبقوة على الجميع وفي جميع الاتجاهات على قول أصحاب النشرة الجوية:"رياح شمالية شرقية إلى جنوبية غربية"،فأين ذهبت بربكم يا قوم،ذلكم هو التغيير الذي وقع... ويقع،فلا تفسدوا علينا رمضان فالتغيير حتما قد وقع...وسيقع ؟؟.