لقد وردت كلمة الأمة في القرآن الكريم عشرات المرات، وهي تهدف إلى بناء مجتمع متميز في ثقافته وعقله ومواطنيه، وإن ذكر كلمة الأمة في أغلب السور القرآنية دليل على أهمية فكرة الوجود الاجتماعي للمسلمين، وحيثما وردت تصف وجوداً جماعياً واجتماعياً يتمتع بنفس العقلية التي يتمتع بها الفرد المسلم، في الإيمان والإرادة والحرية، لقد استعمل الإسلام وصف المسلم ووصف المسلمون، واستعمل وصف المؤمن ووصف المؤمنون، بالصيغ المفردة والجمع، بينما كانت مهمة تكوين الأمة التركيز على فكرة بناء الجماعة الإنسانية المثقفة، أي الأمة المسلمة، بوصف القرآن الكريم: "رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ" [البقرة، 127]، وفي المادة الثانية من دستور المدينةالمنورة: "هذا كتاب من محمد النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم، بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم: أنهم أمة واحدة من دون الناس"[1]. ومن أسسها ومهماتها العبادة بالمفهوم العام والشامل: "وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً اَنُ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الاَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ" [النحل، 36]، وكذلك العبادة بمفهومها الخاص: "وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الاَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ" [الحج، 32]، وقوله تعالى: "لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الاَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ" [الحج، 65]، والمفهوم الخاص للعبادة هو مناسك الحج والعمرة الخاصة بالأمة المسلمة، وبذلك يكون مفهوم الأمة مفهوماً فكرياً إيمانياً وعقدياً واجتماعياً. وهكذا يرتبط مفهوم الأمة في الإسلام بالدين: عقيدة وفقهاً وأخلاقاً، ويظهر في أكبر عمل جماعي واجتماعي وتعبدي في مناسك الحج، فالحج موسم تجديدي لعقد الأمة التي لا يشاركهم بها أحداً، أي يرتبط بالمفهوم العام للثقافة الإسلامية، وأما المعنى السياسي وتكوين الحكومة السياسية، فقد جاء النص عليه صريحا في قوله تعالى: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ" [البقرة، 142]، فالشهادة على الناس أشمل من العمل التربوي أو الدعوي. وفي قوله تعالى:" وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" [اَل عمران، 104]، تعيين لمسؤوليات الأمة المسلمة كيف تشهد على الناس، بالدعوة إلى كل ما فيه خير، دون أن يكون شرطه من الثقافة الإسلامية، بل لو كان من أي ثقافة أخرى، طالما شمله وصف الخير، ومن هذا الباب يدخل مشاركة العالم بالدعوة إلى حقوق الإنسان بقدر ما فيها من خير، بغض النظر عن مصدرها، وكذلك الأمر بكل معروف يتعارف عليه الناس، والنهي عن كل منكر ينكرونه مجمعين متفقين على إنكاره، فهذه الآية دليل صريح على إبرام العقد الاجتماعي، وتعيين الحكومة السياسية التي تقوم بتنفيذ هذه الأعمال والإشراف عليها. لقد مثلث صحيفة المدينة بعد الهجرة النبوية أول صياغة قانونية دستورية للمسلمين[2]، وكانت مهمتها تنظيم شؤون سكان المدينةالمنورة قانونياً، فقد أنشئت المدينةالمنورة، وفيها تعددية عرقية وتعددية عقدية (دينية)، فكان لا بد لها من عقد اجتماعي ينظم شؤون المسلمين وغير المسلمين، ويبين لكل مواطن أو طائفة عرقية أو عقدية حقوقها وواجباتها في الدولة الإسلامية، حتى يكونوا على بينة من أمرهم، وهو ما يطلق عليه حق المواطنة في العصر الحديث دون أن يستعمل نصه[3]، حيث يعلم كل مواطن حقوقه وواجباته، فالصياغة القانونية الواضحة سبيل الحياة المستقيمة[4]. وبالرغم من ازدياد الاهتمام بصحيفة المدينة في العصر الحديث[5]، وبالأخص في بيان دورها في تأسيس العقد الاجتماعي بين المسلمين وغيرهم من المواطنين غير المسلمين، المشاركين لهم الوطن والجغرافيا والحضارة والتحديات والحماية والدفاع والمستقبل المشترك، إلا أن الباب لا زال مفتوحاً لمزيد من الدراسات القانونية، والتحليلات السياسية، مقارنة بمفاهيم العقد الاجتماعي في العصر الحديث. إن التزام أي جمع بشري بأحكام الإسلام، من المحتم أنهم آمنوا بعقد اجتماعي يجمعهم، بل من الجائز أن يطلق مفهوم العقد الاجتماعي على كل مجتمع مسلم؛ لأنه لا يصل إلى هذه المرحلة إلا وكل مواطن من مواطنيه يعرف حقوقه وواجباته، والإسلام آثر استعمال مفهوم الأمة؛ لأنه أشمل من مفهوم المجتمع ومن مفهوم العقد الاجتماعي كما بينا، وإذا كان مفهوم الأمة المسلمة خاصاً بالمسلمين، فإن مفهوم العقد السياسي للمسلمين يقبل المشاركة في المسؤولية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية مع غير المسلمين، وهذا ما ينظمه الدستور الإسلامي، اقتداء بالرسول عليه الصلاة والسلام، وعملاً بالسنة النبوية، عندما أسس المسلمون عقدهم الاجتماعي أولاً، وتطويره إلى عقد السياسي بعد الهجرة النبوية إلى المدينةالمنورة. --------------------------------------- 1. وثيقة المدينة المضمون والدلالة، أحمد قائد الشعيبي، سلسلة كتاب الأمة، قطر، الطبعة الأولى، ذو القعدة 1426ه، كانون أول 2005، كانون ثاني 2006م، ص 41. 2. مجموعة الوثائق السياسية العهد النبوي والخلافة الراشدة، محمد حميد الله، دار النفائس، بيروت، الطبعة السادسة، 1407ه/1987م، ص: 59. سيرة نبي الهدى والرحمة، عبد السلام هاشم حافظ، منشورات: رابطة العالم الإسلامي، مكةالمكرمة، الطبعة الأولى، 1402ه/1982م، ص: 169. وكتاب: وثيقة المدينة المضمون والدلالة، أحمد قائد الشعيبي، سلسلة كتاب الأمة، قطر، الطبعة الأولى، ذو القعدة 1426ه، كانون أول 2005، كانون ثاني 2006م. 3. كتاب: وثيقة المدينة المضمون والدلالة، أحمد قائد الشعيبي، مصدر سابق، ص: 66 و68. 4. القانون الإسلامي وطرق تطبيقه، أبو الأعلى المودودي، الدار السعودية، جدة، 1405ه/1985م، ص 18. 5. قراءة في دستور المدينة، وليد نويهض، بحث في كتاب: حقوق الإنسان في الفكر العربي، دراسات في النصوص، مصدر سابق، ص: 143، 169.