سبق عدد من علماء الإسلام إلى الحديث عن مقاصد العقائد، فألف في هذا المجال الحكيم أبو عبد الله محمد بن علي بن الحسن بن بشر الترمذي كتابه "إثبات العلل"، الذي أكد فيه على أن أصحاب المعاني والقادرين على إدراك مقاصد الشريعة وعلل العبودية هم الخاصة وخاصة الخاصة؛ وكذلك ألف أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن البخاري كتابه "محاسن الإسلام وشرائع الإسلام" الذي شرح فيه خصائص الشريعة ومميزاتها وعظيم شرفها ومقاصدها. إلا أن الذي تميز من هؤلاء الأعلام هو حجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي الذي كثرت تآليفه في مجال العقيدة، ومن ذلك كتاب "الإحياء"، و "الاقتصاد في الاعتقاد"، و "قواعد العقائد" التي شرحها العلامة الزروقي، وغيرها من المصنفات التي زينها بالحديث عن مقاصد العقيدة وأسرارها وحكمها التي فصل في بعضها حينا وألمح إلماحا في أخرى أحيانا. وهكذا أشار الإمام الغزالي في إحيائه إلى أن إدراك الأسرار التي يترجمها ظاهر ألفاظ هذه العقيدة فلا مفتاح له إلا المجاهدة وقمع الشهوات والإقبال بالكلية على الله تعالى وملازمة الفكر الصافي عن شوائب المجادلات، وهي رحمة من الله عز وجل تفيض على من يتعرض لنفحاتها بقدر الرزق وبحسب التعرض وبحسب قبول المحل وطهارة القلب، وذلك البحر الذي لا يدرك غوره ولا يبلغ ساحله. ومن جملة الأمثلة على ما سبق ذكره يورد الإمام الغزالي في كتبه كلاما عن التوحيد ومراتبه، فلا يقف عند ما هو مقرر عند متكلمي أهل السنة والجماعة الذي هو إثبات للوحدانية لله تعالى في الذات والصفات والأفعال، بل أضفى عليها بعدا سلوكيا عجيبا يختلف باختلاف الموحدين ومقاصدهم من التوحيد، وكأن الغزالي يشير -كما أشار إلى ذلك ابن خلدون من بعده- إلى أن المعتبر في التوحيد ليس هو الإيمان فقط؛ لأن الإيمان تصديق علمي، أما التوحيد فهو علم ثان ينشأ من العلم الأول، والفرق بينهما أشبه بالفرق بين العلم بالشيء والاتصاف بهذا الشيء أو التحقق به. وهكذا قال الإمام الغزالي في كتاب التوحيد والتوكل المضمن في مؤلفه "الإحياء": فكذلك التوحيد بمجرد اللسان دون التصديق بالقلب عديم الجدوى كثير الضرر مذموم الظاهر والباطن؛ لكنه ينفع مدة في حفظ القشرة السفلى إلى وقت الموت: والقشرة السفلى هي القلب والبدن. وتوحيد المنافق يصون بدنه عن سيف الغزاة فإنهم لم يؤمروا بشق القلوب، والسيف إنما يصيب جسم البدن وهو القشرة وإنما يتجرد عنه بالموت فلا يبقى لتوحيده فائدة بعده، وكما أن القشرة السفلى ظاهرة النفع بالإضافة إلى القشرة العليا فإنها تصون اللب وتحرسه عن الفساد عند الادخار، وإذا فصلت أمكن أن ينتفع بها حطباً لكنها نازلة القدر بالإضافة إلى اللب، وكذلك مجرد الاعتقاد من غير كشف كثير النفع بالإضافة إلى مجرد نطق اللسان ناقص القدر بالإضافة إلى الكشف والمشاهدة التي تحصل بانشراح الصدر وانفساحه وإشراق نور الحق فيه، إذ ذاك الشرح هو المراد بقوله تعالى: "فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام" [الاَنعام، 125]، وبقوله عز وجل: "أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه" [الزمر، 22]. وكما أن اللب نفيس في نفسه بالإضافة إلى القشر وكله المقصود، ولكنه لا يخلو عن شوب عصارة بالإضافة إلى الدهن المستخرج منه، فكذلك توحيد الفعل مقصد عال للسالكين لكنه لا يخلو عن شوب ملاحظة الغير والالتفات إلى الكثرة بالإضافة إلى من لا يشاهد سوى الواحد الحق. وقد فصل بعض الباحثين المتخصصين في أعمال الإمام الغزالي المفهوم النسقي العقدي الذي أفضى إلى بلورة نظرية المقاصد العقدية عند الغزالي، وهذا ما قام به الأستاذ الباحث محمد عبدو في أطرحته العلمية المتميزة "مقاصد العقائد عند الغزالي"، حيث شرح عناصر هذه النظرية شرحا متميزا على نفس منوال نظرية الإمام الشاطبي، فتكلم عن ضرورية العقائد وما لها من زوائد ومتممات، ثم إنها تقام أركانها وتثبت قواعدها بأسباب الحفظ لوجودها وأسباب الدفع لمفسدتها ومهلكاتها، وهي تجري مجرى الوسيلة لغيرها، ثم هي ليست على رتبة واحدة، بل أنفسها معرفة الذات، ثم يليه معرفة الصفات، ويليه معرفة الأفعال.. إلى غير ذلك من خمس عشرة مسألة تشكل هندسة هذا البناء النظري للمقاصد العقائدية عند الإمام الغزالي. إن المتأمل في نشوء هذه النظرية المقاصدية يمكن أن يعزوها إلى أربعة أمور أساسية عامة: أولا: التكوين العلمي المقاصدي الرصين الذي مزج فيه حجة الإسلام بين علم الكلام وعلم الفلسفة وعلم الأصول وعلم التصوف، خاصة وأنه قد سبق أن خاض تجربة مقاصدية متميزة في كتاب "مقاصد الفلاسفة"؛ ثانيا: التغيير الجذري الذي عرفته حياة الإمام الغزالي منهجا ومعرفة وسلوكا، كأن نصف عمره الأخير ناسخ لنصفه الأول قولا وعلما وحكما، خاصة إذا علمنا أن للحكيم الترمذي ولعدد من علماء التربية والسلوك أثرا واضحا على فكر الإمام الغزالي، مما جعله يهتم بإعادة بناء التصور العقدي وفق نسق مقاصدي متميز تميز أواخر سنوات حياته؛ ثالثا: الحالة التي كان عليها القرن الخامس الهجري من الخلاف الشديد والصراع المرير بين المذاهب الفقهية والعقائدية، وتواجد تيار الزندقة، وانتشار الإسماعيلية النزارية التي عاثت في عقيدة البلاد والعباد فسادا ورعبا، وكذا اشتداد الفتنة الطائفية التي قادتها بعض فرق الشيعة.. هذه الأمور وغيرها هي التي جعلت الإمام الغزالي يخرج من نظامية بغداد إلى بلاد الشام ويحاول تصحيح الاعوجاج العقدي، وتقويم انحراف التوحيد واحروراف مقاصده؛ رابعا: تميزه بنظر ثاقب وخبرة كبيرة في مجال الدراسات التربوية والنفسية والسلوكية، ووعيه العميق بأثرها الفعال في توجيه الإنسان وبناء تصوره العقدي.