قبل أيام كانت الأسر واضعة أكفها على قلوبها حتى لا تنفرط من شدة الخوف ألا يحالف الحظ أبناءها في الامتحانات الإشهادية خاصة، بعد إنفاق كبير الجهد والمال طيلة السنوات، أملا في الولوج إلى سلك أعلى، أو الأقسام المحضرة لإحدى المدارس الوطنية، أو الولوج إلى المؤسسات الجامعية لتطمئن على أبنائها، وتواكب معها مرحلة جديدة من الصبر والمصابرة على شد الأحزمة ومواجهة أعتى التحديات، كل هذا أمر طبيعي ينال كل الناس حظه منه، لكن السؤال الذي يطرح بحدة، بعد كل هذه الهواجس هو ماذا بعد الامتحان؟ وبعبارة أخرى، أين تتجه اهتمامات الأبناء وأنظارهم بعد كل تلك المعاناة؟ تعود الأفواج من البنين والبنات إلى البيوت منهكة من جراء طول المعاناة، تحمل بين أجنحتها آمالا عريضة في النجاح، فإذا أعلنت النتيجة بالسلب أو الإيجاب، انتشرت لتبحث لنفسها عن ملاذ آمن تروح فيه عن النفس، لتستعيد ما ضاع منها قبل وأثناء الامتحان، وإن كان ذلك يتم غالبا بكيفية خارجة عن الضوابط الشرعية والعقلية، من الإسراف في اللعب والسهر وإهدار الوقت والتحلل من كل الالتزامات، وهذا يدعو إلى تنبيه جميع الأسر إلى المحاذير المحفوفة بإطلاق العنان لحرية الأبناء في عطلة الصيف، وهي على سبيل المثال لا الحصر كالآتي: - لا تعني العطلة الصيفية فيما تعني، التحلل من المسؤوليات والواجبات وما أكثرها، سواء الواجبات الدينية أو الدنيوية من إقامة الصلوات في أوقاتها، ورعاية حقوق الوالدين خاصة في حالة العجز والحاجة إلى الخدمة والمواساة، قال تعالى: "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلاَ تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما" [سورة الاِسراء، الآية: 23]. وكذا الاستزادة من العلم عملا بالأثر "طلب العلم فريضة على كل مسلم"[1]؛ لأن العطلة لا ترفع هذا الواجب، بل يظل قائما، تتخير له فترات الفراغ والشوق ضمانا للتحصيل الراسخ. - صحيح أن الأبناء يتعطشون إلى الحرية المطلقة، بعيدا عن الالتزام، لكن لا بد لأولياء الأمور أن يخططوا تخطيطا محكما لاستثمار أطول عطلة هي عطلة الصيف، وترتب أولويات اهتمامات الأولاد بما يخدم مكونات شخصيتهم النفسية والوجدانية والعقلية، وبذلك تلبي العطلة حاجات الأبناء المتنوعة وبشكل متوازن، وقد يعتبر البعض هذا التوجيه طموحا بعيد التحقيق، خاصة في ظل التمثلات الخاطئة للعطلة باعتبارها زمن الحرية والراحة، لكنه إذا تأمل في تراثنا التربوي يجد أن الوقت وحسن إدارته مسؤولية لا تقل حجما وثقلا عن المسؤوليات الأخرى، بل هو رأس مال الإنسان في هذه الحياة، وأغلى شيء في الوجود، إذ على أساس حسن استثماره تقاس الأمم وترتب في سلم الحضارات، فكلما كانت واعية بهذا الواجب، وماضية في التنفيذ وبارعة في التقدير، إلا واحتلت أعلى المراتب، وهذا هو الفيصل في التفاوت بين الأفراد والأمم. - لا ينبغي تكريس المفهوم السلبي للعطلة، كما يلاحظ ذلك في واقع الناس في عطلة الصيف من العطالة والتحرر وفتح كل أبواب العبث، والاستسلام للدعة والاسترخاء المتواصل، ووضع حد لكل ما هو جدي ولو عاد بالنفع، الأمر ليس كذلك، فالوقت قيمة ومسؤولية، بل أول ما يسأل عنه ابن آدم يوم القيامة، "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه، وعن علمه فيم عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه"[2]. - لضمان استثمار العطلة الصيفية بنجاح يتعين على أولياء الأمور أن يضعوا برنامجا صيفيا متكاملا يستجيب للرغبات والحاجات في نفس الآن، وأرقى من ذلك إشراك الأبناء في تلك البرمجة حتى يحسوا بالاعتبار، ويشعروا بالارتياح، وهو هدف مقصود لذاته من التكامل العائلي الذي يترك آثاره الإيجابية على تحقيق النمو النفسي وأمنه . ---------------------- 1. المعجم الكبير للطبراني، عن ابن مسعود، رقم: 39/ 104. 2. سنن الترمذي، عن برزة الأسلمي، رقم: 2417.