قبل الإجابة عن السؤال الذي ذيلت به جملة من الأسئلة المنطلق منها في مقال ما قبل الأخير، كيف نرسخ في أبنائنا قيمة التسامح؟ قبل استعراض الأجوبة الممكنة لا بد من تسليط الضوء على النسق التربوي والتنشئة الاجتماعية السائدة في فضاءاتنا التربوية إن على مستوى الأسرة أو على مستوى المدرسة، باعتبارهما مؤسستين تربويتين لهما أثرهما التربوي الواضح، وتراهن عليهما كل الأمم في التنشئة السليمة للأجيال التي ستستلم المشعل، ويوكل إليها أمر تدبير الشأن العام في مختلف مجالات الحياة، ومن ثم تتأكد ضرورة فحص وتقويم الظواهر أو النظم التربوية المعتمدة في هاتين المؤسستين؛ وذلك وفق منظومة قيم معيارية ثابتة في ثقافتنا، قبل إصدار الأحكام على مسارهما وأساليبهما التربوية بالسلب أو الإيجاب. فالمستقرئ لدور الأسرة في التنشئة -في واقعنا الاجتماعي- يصل حتما إلى نتيجة هي أن عملها تطبعه الارتجالية، والبعد عن العلمية والمناهج التربوية النظامية والمتطورة، وتتسم أساليبها بالبدائية –غالبا– بفعل تأثرها بالأمية التي تطال نسبة مهمة من الأسر، وتفعل فعلها الضارب في تحويل وجهتها عن الهدف المنشود من أدوارها، خارج وعيها وإرادتها، وأيضا بفعل التأثر بشكل كبير برسائل الإعلام غير المتوازن، والمتحرر من القيم الأخلاقية، والذي يقدم العنف على أطباق شهية وقوية التأثير وبشكل يومي، إضافة إلى اعتبارات أخرى، والتحديات الكبرى التي تحيط بها من كل جانب اقتصادية وثقافية وغيرها، الشيء الذي كان له أثره الواضح على رسالتها التربوية المتسمة بالتشنج أحيانا، والعنف أحيانا أخرى، وعلى تراجعها عن الدور الفاعل في صناعة الأجيال وصياغتها وفق المنظور الثقافي الحضاري للمجتمع، ووفق القيم الموجهة نحو السلوك الراقي، ونسيت أو تناست موقعها الريادي في تقرير مصائر الأجيال؛ لأنها اللبنة أو القاعدة الصلبة التي يبنى عليها صرح الأمم وبنيانها الشامخ والمتماسك؛ ولأنها –أيضا- محطة مفصلية في نقل القيم الإيجابية إلى الناشئة الغضة من التسامح والتعاون والتضامن والتفاهم، وتطبعها بطابعها، وتترك بصماتها واضحة في سلوكها، يؤكد الشاعر هذا الدور واصفا له بقوله: وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما عوده أبوه أما المدرسة فلها ذلك الدور التربوي المنظم والمتسم بالتأني في خطواته، والمعتمد على المنهج العلمي، والأساليب المتطورة، والعمق في التحليل، والحجة في الإقناع، ومن ثم كان للمدرسة أقوى الأثر في تربية النشء، وإن كان هذا الدور لا يلغي دور الأسرة الفاعل، كما تعد الفضاء المناسب لنقل قيم المجتمع الثقافية بيسر للاعتبارات المتقدمة، ولإمكان تضمين محتوياتها الدراسية ما يؤهل لتخريج المتلقين لها وفق المواصفات التي يراد تحقيقها في مخرجاتها، غير أن المدرسة على ما أنيط بها من أدوار تعرف في العقود الأخيرة انهيارا في منظومة القيم؛ بحيث تنتشر فيها ظواهر العنف والعنف المضاد، بدل التسامح والتواصل، رغم إدراج ضمن المناهج التربوية لمفاهيم التسامح واحترام الرأي الآخر وحقوق الإنسان عامة، ما يؤكد أن مجرد إدراج تلك المفاهيم، وإحداث مواد خاصة بها، لضمان ترسيخ هذه القيم لدى الأجيال الجديدة لا يكفي، وإنما لا بد من توفير الفرص المتكافئة في ولوج المدرسة، وأن تكون المناهج المعتمدة مختارة بعناية بحيث تعمل مضامينها على التقريب، وتساعد على التواصل الإيجابي، وتنقل القيم والمثل إلى الناشئة، وأؤكد من هذا كله، أن يلمس المتعلم التطبيق العملي لهذه القيم في سلوك المربين في مختلف المواقع تدريسا وإدارة، وأن تحكم كل العلاقات التي تربط بين جميع مكونات المدرسة، وألا تظل تلك القيم في إطار الشفهي اللفظي؛ لأن التغيير الإيجابي لا يتحقق من خلال الخطاب الوعظي، أو التوجيهات الصارمة والمحفوظات النظرية المنفصلة عن الواقع؛ لأن ذلك يجعل المتعلمين بعد التخرج من المدرسة يعيشون منظومة لا نهائية من الازدواجيات والتناقضات، إذ العادات والسلوكات الحسنة لا تستقر وتستمر إلا من خلال أساليب وتطبيقات عملية قادرة على تحويل المعاني والمفاهيم الأخلاقية إلى أنماط ثابتة من السلوك تدفع المجتمع إلى الحرص على تدعيمها حتى تتأصل وتستقر، ولكن الآفة التي أصابت المدرسة في العالم العربي عامة، تتحدد في اللفظية كما تؤكد ذلك الدراسات الميدانية، يرى د. أحمد صيداوي: أن معظم غرف التدريس في البلاد العربية ساحة للخطب الكلامية حتى في العلوم الطبيعية، ولا يقتصر الأمر على تدريس المواد النظرية، فالمعلم يجنح إلى الإلقاء والتلقين، والتلميذ –في أحسن الأحوال- يميل إلى الخضوع والحفظ والاستظهار[1]، ما يعني أن أولى أولويات المدرسة هي تلقين المعارف النظرية والتخلي أو التساهل في رسالتها التربوية التي تستهدف السلوك وهو ما أدى إلى بروز كثير من الظواهر التربوية المقلقة. خلاصات: لتجنب العنف وترسيخ قيمة التسامح كسلوك حضاري في الأسرة والمدرسة والمجتمع في جميع فضاءاته ينبغي اعتماد الإجراءات الآتية: • نشر الوعي –بجميع الوسائل المتاحة- بأهمية القيم في الارتقاء بالعلاقات الإنسانية، وتحقيق التقارب والتآلف بين الناس في أوساط الأسرة؛ لأنها المؤسسة الأولى التي يتلقى فيها الطفل مبادئ وقيم قبل الانتقال إلى المدرسة لتعميقها، • ضرورة إعادة النظر في المناهج التربوية بتضمينها قيما ينص عليها صراحة، والعمل من قبل جميع مكونات المنظومة على الحرص على نقلها من مستواها النظري للاستهلاك في الامتحانات، إلى المستوى التطبيقي كسلوكات حضارية مقبولة. -------------------------- 1. التعليم العربي بين الواقع والتصور النوعي، المجلة العربية لبحوث التعليم العالي، عدد 2 ص: 215.