ورد لفظ الجدل واشتقاقاته في القرآن الكريم تسعا وعشرين مرة، منها الفعل (جادل) بأزمنته الثلاثة، والمصدر (الجدال)، و(الجدل)، ويبدو من توزيع ورود هذه المشتقات على السور القرآنية، أن مفهوم الجدال مفهوم مكي أكثر منه مدني، إذ ورد في السور المكية عشرين مرة، وفي السور المدنية تسع مرات. ويقودنا التدبر السريع لموارد لفظ الجدال في القرآن الكريم إلى ملاحظة أنواع من الجدال: • الجدال الذي يشكل جزءا من الطبيعة الإنسانية، وقد تمثلت هذه الطبيعة في صور مختلفة، يتصدرها القانون الإلهي الذي عبرت عنه آية الكهف بدقة وبيان: "وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الاِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً" [سورة الكهف، الآية: 54]. كما دلت آية النحل على استمرارية هذا الجدال إلى اليوم الآخر: "يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ" [سورة النحل، الآية: 111". وقد صنف الكثير من المفسرين والدارسين هذا النوع من الجدال ضمن الجدال المذموم، لكننا لا نستطيع مجاراة هذا الحكم؛ لأن الوصف متى كان جزءا من الطبيعة التي جبل عليها الإنسان، صعب الحكم عليه بالذم. بل قد يكون من الأحكم وصفه بالإيجابي، ولعل من أجلى صور الإيجابية في هذا النوع من الجدال تلك التي تسند فعل الجدال إلى أنبياء الله عليهم السلام، "قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ" [سورة هود، الآية: 32]، "فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ" [سورة هود، الآية: 74]، وغير بعيد عن هذا المعنى معنى الجدال في سورة المجادلة التي أقرت مبدأ الجدال من خلال سماع الله عز وجل لقول المرأة المجادِلة واستجابته لها: "َقدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ" [سورة المجادلة، الآية: 1]. • الجدال الملازم للشرك والكفر، وهو الجدال الذي يتعدى حدود ما جعله الله مناسبا للطبيعة الإنسانية: أ. كالجدال بالباطل في مواجهة الحق: "وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا أَيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُواً" [سورة الكهف، الآية: 56]. ب. والجدال في الله وآياته "مَا يُجَادِلُ فِي أَيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ" [سورة غافر، الآية: 4]، "وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ" [سورة الحج، الآية: 8]. ج. والجدال النابع من وسوسة الشياطين: "وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ" [سورة الاَنعام، الآية: 121]. • الجدال الملازم للدعوة، المشروط بالإحسان، وهو ما بينته آية النحل: على العموم "ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ" [سورة النحل، الآية: 125]. وبينته آية العنكبوت بخصوص جدال أهل الكتاب: "وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا أَمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ" [سورة العنكبوت، الآية: 46]. وبذلك يكون القرآن الكريم قد ميز بين المذموم من الجدال والمحمود، بين الطبيعي، وغير الطبيعي. وحدد شروط الجدال المطلوب، والفئة المستهدفة به.