تناولتُ في الجزء الخامس ثالث الأنظار التي ينبغي استعمالها حتى يُفهم كلام الذهبي الحافظ على الوجه الأمثل. وذلك أن ما قاله عن قلة الحديث بمدائن المغرب له سبب، ومتعلق، وظرف زمان، وأبديتُ في ذلك الجزء أن الزمان له تأثير في العلوم كبير، فزمان الحضارة ليس وزمان البداوة سواء، ووقت الأمن واتساع المعايش ليس كوقت الخوف والجوع، وعليه فإن العلوم تنمو وتشتد في الحضارة ما لا تنمو في البداوة، بل إن البداوة إذا هَجمت على الحواضر قَوَضَت بها خيامَ العلم، ومَحت رسمهُ. والحضارة تتنقل بين البلدان تنقُل الظاعن، وحيث مكث نزلت بساحتها المعارف والعلوم، إذ لا قيام للحضارة إلا بها، كما أن العلوم يكون لها في أزمان معينة ببعض الأعلام رواج، ثم يضعف الأمر بعد ذلك، بل كم من أرض كانت في زمان الذهبي ليس فيها من يدري ما الكتاب ولا الإيمان، ثم حييت بعد أن كانت مواتا، وصار لها في علم الحديث شأن أي شأن كالهند مثلا؛ فإن الذهبي قال فيها: "فالأقاليم التي لا حديث بها يروى ولا عُرفت بذلك: الصين أُغلق الباب، والهند، والسِند..."[1] ، فهذا حال الهند زمان الذهبي، ثم تغير الأمر، فصارت في القرون المتأخرة دار حديث، واشتهرت بذلك، ونبغ من أهلها محدثون كبار، توجد تراجم عامتهم في كتاب: "الإعلام بمن وقع في تاريخ الهند من الأعلام" ويسمى أيضا "نزهة الخواطر، وبهجةَ المسامع والنواظر" للشيخ عبد الحي بن فخر الدين الحسني، وقد طبع الكتاب [2] في ثلاثة مجلدات كِبار. وكثرة من فيها من الأعلام منبئ بأن المعارف بمختلف مجالاتها خصوصا الحديث، كان لها بالهند في الأعصر المتأخرة رواج عظيم. فهذا دال على أن الحكم على حالة العلم بمصر من الأمصار ينبغي أن يُستحضرُ فيه عنصر الزمان استحضارا أكيدا. وهناك شواهد أخرى سأسوقها إن شاء الله تعالى في الجزء السابع من هذه القضية. يتبع في العدد المقبل بإذن الله.. --------------- 1. الأمصار ذوات الآثار ص: 226-227. 2. دار ابن حزم، ط1/1420-1999.