وقفت في الجزء الأول من هذه القضية على ما ذكره الذهبي في كتابه "الأمصار ذوات الآثار" من كون الحديث في غالب مدائن المغرب قليل، وإنما بها المسائل [1]، وذكرت أن هذا الكلام له سياق، وسياق، ولحاق، وأن النظر في مجموع ذلك هو الموصل إلى فهم المراد. ومن المعلوم أن الحكم بالقلة يستلزم إثبات أصل الوجود. وخاصية وجود الحديث بالمغرب أنه وجود لم يعقبه عدم، كحال كثير من الأمصار التي اتقدت فيها جذوة الاشتغال مرة بعلم الحديث ثم خبت بمرة. ثم إن هذه القلة التي قررها الحافظ الذهبي - وهو ممن لا يجاري سعة إطلاع، ودقة نقد- لها سبب، ومتعلق، وظرف زمان. فأما السبب؛ فإن الغرب الإسلامي كان قاصيا عند مركز العالم الإسلامي القديم، وذلك باعتبار ما كان معروفا من أقطار الدنيا، ثم ما كان مستعملا من وسائل النقل. وإن للقرب والبعد لتأثرا بينا في كثرة وقلة ما يَرِد منه. وذلك أن الحجاز مهبط للوحي، وبه مكة التي كان منها مبتدأ الرسالة، والمدينة، كهف الإسلام، ومثوى الرسول صلى الله عليه وسلم، ودار الحديث والسنة، وقاعدة الخلافة الراشدة، ومستقر القرابة والصحابة، وينبوع العلم، وقد تاخم الحجازَ الشامُ، وليس بين المدينة و بينه كبير مسافة، وبه استفتحت الفتوح، فكثر بحواضره من نزلها من الصحابة إلى أن صارت دمشق كرسي ملك الأموية، فكثر بها العلم والعواصم كالأسواق، تجلب إليها أصناف البضائع، وجاور الشامَ والعراقُ وبه الكوفة، والبصرة، وقد مُصِّرَتَا في عهد كبار الصحابة، وسكنها منهم جماعة وقد كانت الكوفة مقر الخلافة العلوية الراشدية، ودار عبد الله بن مسعود، وعلي بن مسعود رضي الله عنهما جِرابَا علم، وقد بثا فيها علما كثيرا، وحديثا وفيرا. وأما المغرب الأقصى فلم يتهيأ لبعده الجغرافي قديما لأحد من كبار الصحابة دخوله، ومن ثم كانت أسانيد أهله في القرب ليس كأسانيد من كانت داره متاخمة للمركز. ورغم بعد الشقة، فإن همم أهل الغرب الإسلامي سمت فأعملوا الرحلة لِلُحوقِ الأكابر، وإدراك عالي الأسانيد، فدخل المغرب والأندلس من جهة مثل يحيى بن يحيى الليثي، وبقي بن مَخلد، ومحمد وضاح وأضرابهم حديث في غاية الكثرة. وإذا كانت قلة الأحاديث يراد بها قلة المشتغلين به؛ فإنه يصدق في جهتنا هذه على الأعصر الأولى التي تضم طبقة التابعين وأتباعهم، وأتباع أتباعهم. وسبب ذلك بعد الدار الموجب لتأخر الفتح. ومن تتبع الأمصار التي ينسب إليها رجال الأئمة الستة مثلا من طبقة التابعين فمن يليها وذلك في مثل تهذيب الكمال للمزي لم يجد ممن نسب إلى أمصار القاضية كبير شيء، ثم اتسع بعد ذلك الأمر، وفشا الحديث حتى بلغ ما بعد من الأقطار، فنبغ فيها أكابر من الحفاظ. وذلك في القاصي من البلدان شرقا، والنائي من الأمصار غربا على حد سواء. ---------- 1.الأمصار ذوات الآثار، ص: 192.