تصدر أبو عمرو للإقراء منذ أن رجع من رحلته المشرقية فبلغ تلاميذه العشرات، ثم لمع نجمه أكثر بعد أن استقر به المقام بمدينة دانية في كنف أميرها الشهير مجاهد بن عبد الله العامري الذي كان ينافس ملوك الطوائف في تقريبه للقراء والعلماء. وقد اشتهر أبو عمرو بنسبه "الداني" نسبة إلى مدينة دانية لطول تصدره بها، وكان قبل ذلك يدعى ب"ابن الصيرفي"، وظل فيها مقصدا للقراء من الآفاق حتى كان يقال لمدينة دانية "معدن القراء في المغرب"، وصار أهلها أقرأ أهل الأندلس. وما زال الحافظ أبو عمرو يدرِّس القراءات وعلومها، ويؤلف في الرواية والرسم والضبط والوقف والابتداء وعد الآي ومسائل الخلاف وأصول الأداء حتى تجاوزت مؤلفاته ورسائله المائة والسبعين كتابا، وصل إلينا منها كثير كالتيسير والمنبهة والمقنع والمحكم وجامع البيان والمكتفى والموضح والمفردات وشرح القصيدة الخاقانية وغيرها. ومن مظاهر إمامة أبي عمرو الداني ما ذكره في أرجوزته "المنبهة" في لزوم عرض القرآن على المشايخ وعدم الاكتفاء بالتعلم من المصحف، وفي بيان الشروط المعتبرة في الشيوخ المتصدرين، وذلك قوله (المنبهة الأبيات من 466 إلى 496): واعلم بأن العرض للقرءان *** على الإمام الفاضل الديان من سنة النبي والصحابة *** ذوي المحل وذوي القرابة والتابعون بعد لم يَعْدُوهُ *** بل مِن وكيد الأمر قد عدُّوه إذ كان قد صح عن الرسول *** بأنه قرا على جبريل وقد قرا بالوحي إذ أتاه *** على أُبيٍّ ثم قد أقراه فأي شئ بعد هذا يُتَّبع *** وهل يَرُد الحق إلا مبتدع أو جاهلٌ لقوله لا يُنظر *** إذ هو في الورى كمن لا يُبصر واطلب هُديت العلم بالوقار *** واعقد بأن تطلبه للباري فإن رغبت العرض للحروف *** والضبط للصحيح والمعروف فاقصد شيوخ العلم والرواية *** ومن سما بالفهم والدراية ممن روى وقيَّد الأخبارا *** وانتقد الطرق والآثارا وفهم اللغات والإعرابا *** وعلم الخطأ والصوابا وحفظ الخلاف والحروفا *** وميز الواهيَ والمعروفا وأدرك الجليَّ والخفيا *** وما أتى عن ناقل مرويا وشاهد الأكابِر الشيوخا *** ودَوَّن الناسخ والمنسوخا وجمع التفسير والأحكاما *** ولازم الحذاق والأعلاما وصاحب النُّسَّاكَ والأخيارا *** وجانب الأرذال والأشرارا واتبع السنة والجماعة *** وقام لله بحسن الطاعة فذلك العالم والإمام *** شكرا بِه لله لا يقام فالتزم الإجلال والتوقيرا *** لمن يريك العلم مستنيرا وكن له مبجلا معظما *** مُرَفِّعا لقدره مُكرِّما واخفض له الصوت ولا تُضْجرْه *** وما جنى عليك فاغتفِرْه فحقه من أوكد الحقوق *** وهجره من أعظم العقوق والعلم لا تأخذه عن صُحْفيِّ *** ولا حروف الذكر عن كُتْبيِّ ولا عن المجهول والكذاب *** ولا عن البدعي والمرتاب وارفض شيوخ الجهل والغباوة *** لا تأخذنَّ عنهم التلاوة لأنهم بِالجهل قد يأتونا *** بغير ما يروى وما يروونا وكل من لا يعرف الإعرابا *** فربما قد يترك الصوابا وربما قد قوَّل الأئمة *** ما لا يجوز وينال إثمة فدعه والزم يا أخي الصدوقا *** ومن تراه يحتذي الطريقا طريق من مضى من الأسلاف *** أولي النهى والعلم بالخلاف وكان الحافظ الداني كما قال العلامة ابن بشكوال في ترجمته له في الصلة: (2/385 386ه): "أحدَ الأئمة في علم القرآن ورواياته وتفسيره ومعانيه وطرقه وإعرابه، وجمع في ذلك تواليف حسانً يطول تعدادها، وله معرفة بالحديث وطرقه وأسماء رجاله ونقلته، وكان حسن الخط جيد الضبط، من أهل الحفظ والذكاء والتفنن، ديّنا فاضلا ورعاً سنياً. وقال المغامي: كان أبو عمرو الداني مجاب الدعوة، مالكي المذهب، قرأت بخط شيخنا الحافظ عبد الله بن خليل رحمه الله قال بعض الشيوخ: لم يكن في عصر أبي عمرو ولا بعد عصره بمدد أحد يضاهيه في حفظه وتحقيقه، وكان يقول: ما رأيت شيئاً إلا كتبته، ولا كتبته إلا حفظته، ولا حفظته فنسيته، وكان يُسأل عن المسألة مما يتعلق بالآثار وكلام السلف فيوردها بجميع ما فيها مسندة من شيوخه إلى قائلها". قال ابن الجزري: "ومن نظر كتبه علم مقدار الرجل وما وهبه الله تعالى، فسبحان الفتاح العليم، ولا سيما كتاب "جامع البيان" فيما رواه في القرءات السبع ... وتوفي رحمه الله بدانية يوم الاثنين منتصف شوال سنة 444 ه ومشى صاحب دانية أمام نعشه وشيعه خلق عظيم". (غاية النهاية:1/505). فرحم الله هذه الهمم العظيمة وبوّأها منازل الجنان مع الصفوة الكرام من الأئمة الخالدين.