[محمد المختار السوسي، العالم المتأصل][1] تعتبر المدرسة العلمية العتيقة في المغرب رمزا للأصالة العربية الإسلامية في المغرب، وبرهانا على ما للعبقرية المغربية على مر العصور من حرص شديد على العلوم العربية، وعلى الثقافة الإسلامية، ذلك أن المغاربة كانوا –على امتداد تاريخهم الإسلامي العريق– حريصين على إنشاء هذه المدارس في مختلف المناطق: في الحواضر والقرى على السواء، وعلى رعايتها بشتى الوسائل، سواء من حيث الدعم والرعاية اللذان كانا لهذه المدارس من قبل ملوك المغرب عبر مختلف الحقب التاريخية، أو من حيث التسيير والتحويل والصيانة وغيرها مما كان الأفراد والجماعات يولونه لها، حتى تؤدي رسالتها التربوية والعلمية والفكرية على أحسن وجه. وهكذا واصلت المدرسة العتيقة أداء رسالتها هاته، تلقن لتلاميذها مختلف العلوم: الدينية كالتفسير والحديث والفقه، واللغوية كالنحو والصرف والبلاغة، إضافة إلى مختلف فنون الأدب وباقي العلوم الدقيقة: كالفلك، والرياضيات والطب… إذ أن المئات من علماء المغرب المشهورين عبر مختلف العصور يعتبرون خريجي هذه المدارس المنبثة في مختلف جهات البلاد قديما وحديثا، فحافظت بذلك –وما تزال– على هذه المكانة، مما يجعلها جديرة بأن تنال لدى الدارسين والباحثين ما تستحقه من عناية تستهدف تخليد أمجادها والتعريف بأياديها البيضاء دينيا وثقافيا ووطنينا. ويعتبر العلامة محمد المختار السوسي (1318-1383 ه/1900–1963 م) نموذج التلميذ الذكي العبقري خريج المدرسة العتيقة. وقد تعددت المدارس العتيقة التي تلقى فيها صاحبنا دراسته بتعدد المجالات المعرفية والعلمية التي برز فيها، وتنوعت بتنوع المناطق الجغرافية التي توجد فيها انطلاقا من سوس، ومرورا بمراكش وأحوازها، وأخيرا بفاس والرباط. واستغرقت هذه الرحلة العلمية عشرين سنة كاملة خلال الفترة المتراوحة بين السنة الحادية عشرة والثلاثين من عمره. كما كان العلامة نموذج الأستاذ النبيه الموفق في تكوين أفواج التلاميذ العالمين والعاملين، وذلك من خلال المدرسة العتيقة. فقد دأب محمد المختار السوسي على اعتبار المدرسة العلمية التقليدية مؤسسة علمية صالحة لمواكبة ومسايرة ما يستجد في كل عصر وفي كل بيئة، اقتناعا منه بأن المحافظة على الأصالة المغربية ضرورة تحتمها عدة اعتبارات، وأن التعليم المغربي الإسلامي الأصيل يعتبر الدعامة الكبرى والفعالة بتكوين الإنسان المغربي القادر على الدفاع عن الإسلام وعن الوطن، والقادر على صد العدو الاستعماري وعلى المحافظة والدفاع عن السيادة الوطنية. وكان العلامة كذلك نموذج المجاهد المناضل في سبيل توسيع وتطوير المدرسة العلمية العتيقة، فلم يكن محمد المختار السوسي مجرد أستاذ اتخذ المدرسة العلمية العتيقة وسيلة لنشر علمه وبث أفكاره الوطنية والإصلاحية في صفوف تلاميذه، بل كان طوال حياته يناضل ويكافح في سبيل الإكثار من المدارس العلمية الأصيلة، وفي سبيل تطويرها، سواء من حيث مناهج التدريس فيها أو من حيث أهدافها البعيدة والعميقة الرامية إلى تكوين الإنسان المغربي الصالح دينيا ووطنيا وفكريا وسلوكا. وكان العلامة أيضا نموذج الباحث المؤرخ الذي خصص للمدرسة العتيقة قسطا وافرا من كتاباته ومؤلفاته. فقد عرف بمدارس سوس على الخصوص من حيث تأسيسها، وتطورها، وعناية الأهالي بها، وعرف بمحتويات خزاناتها وبالعلوم والمعارف التي تلقنها لتلاميذها، وعرف بالإشعاع الذي كان لها على الصعيدين المحلي الإقليمي والوطني. كما ترجم لأساتذتها، وشيوخها، وتحدث عن آثارهم المتجلية فيما خلفوه من آثار، وما كونوه من تلاميذ، وما أسهموا به سبيل مقدمة العرش متمثلا في إخلاصهم له وجهادهم في سبيله ونصرتهم له، وخاصة في المواقف الصعبة التي تعرفها البلاد من حين لآخر، وكذلك مساهمتهم في خدمة الدين ممثلا في محاربتهم البدع، وتصديهم للشعوذة، ودأبهم على نشر العقيدة الصحيحة باعتمادهم على الدعوة إلى التمسك بالكتاب والسنة وبالمذهب السني المالكي. وترجم كذلك لتلاميذ هذه المدارس النجباء سالكا في ذلك المسلك نفسه الذي سلكه في الترجمة لأساتذتها. يتبع في العدد المقبل… ——————————— 1. خليل، محمد: "دور محمد المختار السوسي في تأصيل وتطوير المدرسة العلمية العتيقة"، دعوة الحق. العدد 258 ذو الحجة 1406/ غشت 1986.