"أراد - بعدما روض نفسه على فنون الأدب - أن يكون شاعرا فكانه، ثم أراد - وقد أخذ بحظ وافر من علوم التشريع الإسلامي - أن يكون عالما فكانه، ثم صمم في الأخير أن يكون مؤرخا فكتب أكثر من خمسين مجلدا في أقل من خمس وعشرين سنة في تاريخ إقليم لم يسبق له ضبط أو تنسيق، ولا كان في جمعه لأحد قبله مثل ما كان له من التوفيق". الأستاذ الشاعر محمد العثماني نوافذ إن المغرب عند المختار السوسي - منذ أن دخله الإسلام أصبح بكل مكوناته، سواء كانوا عربا أو أمازيغا، مزيجا واحدا لا يمكن فصله، لأن اللحمة التي تجمعهم هي الإسلام كان السوسي كثير التحذير مما يظهر على بعض أبناء هذا العصر من ميع في الأخلاق، واعوجاج في الآراء والأذواق، ورقة في الدين كما يقول أفلا يهتم مثلي بمثل هذا الشعب الكريم، فليس عندي ما أجزيه به إلا التوجيه الصحيح إلى دينه، وإلى الهداية إلى الصراط المستقيم في كل شؤونه" مدخل تعين دراسة المنهج الإصلاحي لدى علم من أعلام المغرب في القرن العشرين مثل محمد المختار السوسي على التعرف على طبيعة الوعي الذي ساد في تلك المرحلة لدى النخب المغربية ونوع الإشكاليات التي كانت مطروحة لديهم، والوسائل المختلفة لمعالجتها ومواجهة تحديات المرحلة. وهو ما سيفيد في تقييم الحلول التي قدمت واعتمدت لذلك. والمختار السوسي (المتوفى سنة 1383/ 1963م) هو، بشهادة الذين عايشوه أو تتلمذوا عليه أو درسوا آثاره، شخصية استثنائية في تاريخ المغرب المعاصر. ترك تراثا فقهيا وأدبيا وتاريخيا ضخما، تعجز عن إنتاجه فرق متخصصة ومتفرغة. وإني وإن لم ألتق به شخصيا أو أعايشه فقد عاينت آثاره المعنوية والعلمية والعملية فيمن كانوا حولي في منطقة سوس. ودراسة منهجه في الإصلاح سيمكن من كشف جوانب من المضامين الفكرية التي اهتم بها ومداخل الإصلاح التي اعتمدها. *************** أولا في مرجعية المشروع الإصلاحي لم يكن السوسي يتحرك ويعمل دون أرضية فكرية واضحة ودون منطلق تصوري للإصلاح، بل كان ينطلق حسب ما صرح به في العديد من كتاباته - بوعي كامل لما يريد وللإصلاح الذي ينشده. ويمكن تلخيص تلك الأرضية الفكرية في ثلاثة مرتكزات هي: 1-شخصية المغرب شخصية إسلامية. إن المغرب عند المختار السوسي - منذ أن دخله الإسلام أصبح بكل مكوناته، سواء كانوا عربا أو أمازيغا، مزيجا واحدا لا يمكن فصله، لأن اللحمة التي تجمعهم هي الإسلام. ولا يمكن للمغرب بالتالي أن يخرج من الحماية ويظفر بالتقدم إلا بالعودة إلى الإسلام. نجد هذا في ثنايا كتبه ومقالاته بكثرة. فهو يقول فيما يخص نظرته إلى المغرب: "لأنني من الذين يرون المغرب جزءا لا يتجزأ، بل أرى العالم العربي كله من ضفاف الأطلسي إلى بلاد الرافدين بلدا واحدا، وأرى جميع بلدان الإسلام كتلة متراصة من غرب شمال إفريقيا إلى أندونيسيا لا يدين بدين الحق من يراها بعين الوطنية الضيقة التي هي من بقايا الاستعمار الغربي في الشرق". ويقول في مقدمة كتابه "المعسول": "وقد تلاءمت في تقاليدنا الإسلامية المغربية مقتضيات حياتنا وديننا وعاداتنا وحياتنا وعرفت في مجتمعنا تلاءما تاما بين العربية ولغة الدين وعادات تكونت تحت نظرهما في قطر امتزج فيه العرب والبربر تمازج الماء بالراح". ويعتبر السوسي أن المغرب ما تكون كدولة إلا بالإسلام، يقول في الخطاب الذي ألقاه في الدورة الخامسة لمؤتمر العالم الإسلامي ببغداد (مختتم 1382 ه): "أما نحن في المغرب، فإن أمكن أن يتنكر شعب من شعوب الإسلام للإسلام وتعاليمه، فإن ذلك محال في حقنا، لأننا ما تكونا كدولة بين الدول إلا ببركة الإسلام. فقد مضى على قطرنا الفينيقيون والرومان والوندال والبيزنطيون، فلم يكن لنا ظهور كدولة إلا بمجيء الإسلام". 2- الحركة الوطنية لا تنجح إلا إذا كانت إسلامية والفكرة الوطنية لابد أن تستند على الدين والأخلاق: يقول في مذكراته "معتقل الصحراء": "لأن الناس هناك - بل في كل البادية - لا يفهمون الوطنية إلا غيرة دينية، ولا يستثار فيهم شعور وطني إلا إذا آنسوا العمل الديني من وطني، وإلا فسيسقط في أعينهم وشيكا". وعندما تحدث عن البذور الأولى لنشأة العمل الوطني بفاس، وكان يدرس آنذاك بالقرويين، يقول في "الإلغيات": "ومن هناك تمخضت الفكرة الوطنية المتركزة على الدين والأخلاق السامية، وكنت أصاحب كل المفكرين إذ ذاك، وكانوا نخبة في العفة والدين، ينظرون إلى بعيد" 3- خطر الاستعمار على الإسلام والوطنية بنشر ثقافته وفرض لغته، وهو ما يسميه "استعمار العقول والأفكار". ويمكن أن نقول بأن مجمل الجهود الإصلاحية لمحمد المختار السوسي تنطلق من هذه المرتكزات. فهو يعتبر أن مهمته الأساس هي الإسهام في بناء المغرب الحديث على أسس إسلامية قويمة. يقول في "معتقل الصحراء": أفلا يهتم مثلي بمثل هذا الشعب الكريم، فليس عندي ما أجزيه به إلا التوجيه الصحيح إلى دينه، وإلى الهداية إلى الصراط المستقيم في كل شؤونه". ويعتبر نفسه في عمله الوطني "مخلصا لمبادئ الدين أولا، ثم لمبادئ الحزب الحق ثانيا"، لأنه "كيف يخلص لشعبه من لا يخلص لربه". وكان السوسي كثير التحذير مما يظهر على بعض أبناء هذا العصر من ميع في الأخلاق، واعوجاج في الآراء والأذواق، ورقة في الدين كما يقول. وتبنى منهج النقد المباشر للانسلاخ عن الدين وتقليد المستعمر بدل الاستفادة منه في إطار مبادئنا وعقيدتنا. يقول في مقدمة المعسول بأن أعظم ما يهتم به شيئان أولهما "التفريط في المثل العليا التي لا ترسخ في الشعوب إلا بعد جهود قرون. ومتى اجتثت من أي شعب بمثل هذه الاندفاعات التقليدية العمياء فإن أبناء ذلك الشعب سرعان ما ينجرفون عن الصراط المستقيم في الحياة". وقد انبرى السوسي مبكرا لنقد بعض المظاهر المنافية للدين في وسط الحركة الوطنية نفسها. وكان يحاول إصلاح ما يبدو له من خلل على هذا المستوى. ونذكر هنا مثالا واحدا. فقد لاحظ في أغبالو نكردوس أن البعض كان يحرص على التبكير للرياضة ولا يحرص بالمستوى ذاته على التبكير للصلاة فأنشد قائلا: يا من يبكر للريا *** ضة هل تبكر للصلاة؟ هذه للحياة وما تع *** د للذي بعد الممات؟ أو عاقل من ليس ين *** ظر للذي بعد الممات؟ أقبول عادات الأجا *** نب كلها؟ فتقول هات من غير بحث عن مقا *** صد ما قبلت ولا التفات هاتوا الرياضة والصلا *** ة معا تكونوا من الهداة فإذن تكونوا خير نش *** ئ يقتفى في المعضلات وبقي أستاذنا بعد الاستقلال وفيا لمبادئه تلك، فقد حذر في أكثر من مناسبة من مغبة التفريط فيها. ومن ذلك أنه انتقد في مقدمة "المعسول" ما بدأ يلوح آنذاك من تحول في الأفكار والقيم، يقول: "أمس كان الدين ومثله العليا والتخلق به والتحاكم إليه والحرص على علومه، واحترام حملته هو المعروف المجمع عليه (...). أمس كانت عندنا تقاليد محترمة في اللباس، وفي اختيار التأثيث، وفي هيأة الجلوس، وفي إقامة الحفلات، وفي مزاولة الأعمال، فتكونت لنا هيأة اجتماعية توافقنا لأنها كانت متسلمة عن الأجداد (...). وفي هذا اليوم دهم علينا الاستعمار بخيله ورجله، بلونه وفكره". وتحسر مرارا على ما آلت إليه الأمور في هذا المجال واعتبر ذلك خروجا عما كانت الحركة الوطنية تهدف إليه أثناء مقاومة سلطات الحماية، يقول مثلا: "وليت شعري لماذا كنا نحرص على الاستقلال إن لم تكن أهدافنا المحافظة على مثلنا المجموعة في أسس ديننا". وعلى الرغم من أن المختار السوسي تكون في بيئة محافظة جدا، إلا أن فكره ظل يستجيب باستمرار للتجدد والتطور، فكلما تحول إلى حاضرة جديدة، مراكش ثم فاس ثم الرباط، طور فكره ونظراته دون حرج. وبقي منفتحا على الجديد دون تعصب أو تشدد. ومما تحدث عنه أنه جعل كتاب "أصل الأنواع" لتشارلز داروين أنيسه في السجن، يقول: "فانكببت عليه أتفهم مغازيه وأستوحي منه ما يريد داروين الإنجليزي بفكرته هذه، فأفادني فوائد". لقد كان محمد المختار السوسي من بين الشخصيات الوطنية التي أسهمت في بعث روح الاعتزاز بالهوية المغربية، محاولا بناءها على التفاعل الراشد بين مبادئ الدين وتراث المجتمع من جهة، ومقتضيات التطور من جهة أخرى. لكننا إذا أدرنا أن نحدد موقع السوسي بين مصلحي المرحلة على مقياس يتشكل طرفاه من المرجعية السلفية في جهة ومرجعية التحديث في الجهة الأخرى، سنجده ألصق بالأولى منه بالثانية، على الرغم من الانفتاح الكبير الذي أبانت عنه مسيرته. فهو لم يكن الشخص المنغلق الرافض للجديد من حيث هو جديد، أو غربي من حيث هو غربي، لكن تشبعه بالثقافة السائدة في منطقة سوس في النصف الأول من القرن العشرين جعلت نظرته إلى الكثير من مظاهر الحداثة تميل إلى التحفظ، وأحيانا الرفض. *************** ثانيا - التعليم عماد الإصلاح يعتبر التعليم عند المختار السوسي الوسيلة الأهم لإصلاح المجتمع، وحجر الزاوية لبناء المستقبل، والمجال الأكثر قدرة على تخريج إنسان جديد قادر على تجاوز حالة التخلف. ولذلك يحكي أنه حين حل بمراكش سنة 1929م كان هذا هو همه الأساس، يقول: "حللت بالحمراء، وقد ألقيت فيها مرساتي، وأنوي أن أقضي فيها الواجب لديني ولوطني ولشعبي، ما بين تلميذ يهذب، وبين درس إرشاد يلقى". وبهذا فإن التدريس يصبح ذا بعد رسالي، وليس مجرد عمل عفوي أو مهنة للتكسب. كما سجل السوسي في العديد من كتاباته رغبته في أن يكون الاستقلال طريقا لازدهار التعليم والعلم بالمغرب، تعليم وعلم محلين بالأخلاق والدين. وهو يعطي في ذلك أهمية خاصة للمدارس التي تدرس العلوم الدينية. فهو يدعو إلى تنظيمها، "معتنى فيها بمبادئ العلوم"، "محافظا فيها على الأخلاق الدينية والعادات القومية، زيادة على المحافظة على القرآن". وكان يرجو أن ترجع "الحياة إلى مدارس العلم البدوية كالمدارس القديمة المنبثة في أرجاء سوس، حتى توافق العصر في تدريسها ونظمها، فإن الشعب المغربي لا ينهض عمليا دينيا ودنيويا إلا بتنظيم كل الكتاتيب والمدارس التي تغمره من أدناه إلى أقصاه". صحيح أن جميع المصلحين، في المغرب وخارجه، ركزوا على أهمية العلم والتعليم في نهضة الشعوب والأمم. لكن محمد المختار السوسي يتميز بكونه سخر وقته وحياته لذلك. فقد تصدى لمنصب التدريس مبكرا، وخصوصا لما استقر بمراكش. فقد حول زاوية والده إلى مؤسسة تعليمية، سرعان ما طارت شهرتها وتقاطر عليها طلبة العلم من مناطق عدة. وخرجت العشرات من العلماء والأدباء. وأسهمت في تكوين أعداد غفيرة من رجال المقاومة. كما كان سببا في إنشاء ثماني مدارس أخرى بمراكش طيلة مقامه بها ما بين 1929 و 1936. وبالموازاة مع ذلك كان يكثف دروسه في المساجد والمجامع والمناسبات. وبعد الاستقلال استمر السوسي على هذا الإيمان بدور العلم والتعليم. فكان الراعي لجمعية علماء سوس التي يحتل التعليم مكانة متميزة في مشروعها الإصلاحي. فكان للسوسي دور أساس في إنشاء المعهد الإسلامي بتارودانت وعدد من المعاهد التابعة له، وانطلاق مشروع لإصلاح المدارس العلمية العتيقة بسوس وغيرها من الجهود التي حاولت الإسهام عمليا في النهضة التعليمية والعلمية لمغرب ما بعد الاستقلال. ************** ثالثا الجانب التربوي والأخلاقي المرتكز الثالث من مرتكزات المنهج الإصلاحي لدى المختار السوسي يتمثل في الاهتمام بتربية الشعب على الأخلاق الإسلامية والوطنية الصادقة، وهو هدف يتجاوز مجرد التعليم، بمعنى تلقين المعارف والعلوم. وهو يمتاح في ذلك من تربيته الصوفية العميقة التي تلقاها من وسطه، بحكم أن والده الشيخ الصوفي الحاج علي بن أحمد (ت 1328ه/ 1910م) شيخ الطريقة الصوفية الدرقاوية. وعلى الرغم من تأثر السوسي بالسلفية عند انتقاله إلى الحواضر المغربية، التي كانت تعج بالعلماء الكبار أمثال أبي شعيب الدكالي وغيرهم، إلا أنه لم يتخل عن سمته الإيماني العميق، في عبادته ومعاملاته وأخلاقه. فبقي إلى آخر حياته مكثرا من العبادة والذكر، يستيقظ دائما قبل الفجر بساعة أو ساعتين، ولا ينام بعد الفجر. وأثر ذلك السمت في تعاطيه مع تلاميذه طول حياته. ولنقل إنه مزج بين أحسن ما في المشربين الصوفي والسلفي، وحاول تجاوز سلبيات أتباعهما. يقول في أحد نصوصه: "ثم حللت بفاس فبدلت أخلاقا بأخلاق غير التي عهدت من نفسي قبل وأنا في مراكش وأحواز مراكش. تكونت لي في فاس فكرة دينية فرقت فيها بين الخرافات المموهة وبين الروحانيات الربانية". كما يقول في نص آخر: "وإلى متى ونحن نلوك السلفية أقولا فارغة تحول حول تنطعات ومهاجمات ثم لا نرى أثرا للسلفية الحقة التي نتصورها في أمثال بن القيم صلابة وعقيدة وتضحية وعلما واسعا من الحديث ومن الأذواق". هذا التكوين المزدوج والغني، بعبقه العلمي والإيماني العميق، كان له تأثير كبير على تلامذته والمحيطين به. وكان يتعهدهم ويرشدهم دون كلل. فنفخ في جيل كامل روح الإيمان والوطنية الصادقة والخلق القويم. ************* رابعا - قلة الاهتمام بالإصلاح السياسي ما من شك في الإسهام القوي لمحمد المختار السوسي في العمل الوطني وفي مقاومة سلطات الحماية. فقد أسهم في تأسيس أول خلية في إطار العمل الوطني بفاس، وهو طالب آنذاك، وأسهم بفاعلية في الإعداد والتنظير والتنظيم له بمراكش. وعبأ له في دروسه ومحاضراته وبشعره طيلة مراحله. وقد لفت ذلك كله نظر سلطات الحماية، فعملت على ترغيبه تارة بمناصب رسمية كالقضاء، وترهيبه تارة أخرى بالاستدعاءات والتحقيقات المتكررة. ولما فشلت كل تلك المحاولات استعمل معه n مثل باقي الوطنيين n سلاحا النفي والاعتقال. وعلى الرغم من ذلك الإسهام القوي، إلا أن السوسي كان دائما يؤثر العمل العلمي والتعليمي والتربوي، ويعطيه الأولوية. وكان يقول عن نفسه إنه رجل علم وليس رجل سياسة، وأنه خلق للعلم لا للسياسة، وكان دائما يعتبر مهمة العالم أعمق أثرا في مقاومة المستعمر من مهمة السياسي لأن الرسالة العلمية في نظره هو النهج الأفضل للحفاظ على مقومات الأمة ومقاومتها للاستعمار من جهة وللذوبان من جهة ثانية. ولذلك ظل مبتعداً عن أدوار الريادة أو الزعامة السياسية. وعرف أكثر من قبل سلطات الحماية ومن قبل مراقبيه بصفة العلم وعدم إظهاره السياسة، وهو ما أداه إلى أن يقول معلقا على مروره بمحنة المتابعة والاستنطاق، وبعدما أشير عليه بأن لا يصاحب أيا من الأشخاص "المهيجين": "الواقع أنني معهم في جمعية سرية، ولكنهم يظهرون السياسة، وأنا لازمت حالتي العلمية". وكان من نتائج هذا التوجه لدى المختار السوسي أنه لم يهتم بمناقشة الإشكالات السياسية المطروحة ولا بتقديم برامج أو مشاريع أو حتى أجوبة في هذا المجال. وكان كل ما طرح مبادئ وأفكارا عامة. وهي وإن كانت في المجمل واضحة عنده، لكنه لم يكتب أي شيء عن البرامج العملية المطلوب تنزيلها، كما فعلت شخصيات إصلاحية أخرى. كما أنه لم يقم على المستوى النظري بأي جهد يذكر في التنظير السياسي، لا في إطار الفقه السياسي التقليدي في الحضارة الإسلامية، ولا في إطار نقده وتجديده. خامسا - الاهتمام بالتاريخ يعد الإنتاج التاريخي للمختار السوسي واحدا من أغزر الإنتاجات التاريخية لمؤرخ أو مفكر مغربي معاصر. وهو متنوع من حيث منهجه ومادته، ومتسم بالإحاطة والموسوعية بشكل لم يتيسر على الراجح لغيره. وأوسع إنتاجاته موسوعته التاريخية "المعسول" التي جاءت في حوالي ثمانية آلاف صفحة ترجم فيها لنحو 4000 من العلماء والصلحاء والأدباء والرؤساء الذين تولوا المسئوليات في مناطق مختلفة من سوس. يضاف إليها العديد من المؤلفات والمذكرات مثل"سوس العالمة" و"خلال جزولة" (حوالي ثمانمئة صفحة في وصف أربع رحلات علمية في نواحي سوس) و"الإلغيات" و"إيليغ قديما وحديثا" و"معتقل الصحراء" و"رجالات العلم العربي في سوس" (وفيه إحصاء للعلماء والأدباء السوسيين على مدى عشرة قرون، وهم حوالي ألفا شخصية) وغيرها من المؤلفات المطبوعة والمخطوطة. لقد أسفر هذا الجهد الاستثنائي عن تزويد المكتبة المغربية خصوصا، والمكتبة العربية والإسلامية عموما بمادة تاريخية متميزة كما وكيفا، مع ضبط منهجي ووعي تاريخي ندر أن يتوفرا لدى الكتاب والمؤرخين المعاصرين له. ولولا ما كان يتحلى به المختار السوسي من وعي ومثابرة وصبر ومرونة، ما تيسر له ذلك الإنجاز الذي لا يمكن لمن أتى بعده إلا أن يرجع إليه ويعتمده. لكن الأهم في إنجاز المختار السوسي التاريخي هو أنه كان يدخل بوعي في مشروعه الإصلاحي، في اندماج وتكامل مع مشروعيه التعليمي والتربوي. فقد عبر صراحة عن أهدافه المتوخاة من وراء ذلك الجهد التاريخي. ويمكن تلخيص أهمها فيما يلي: 1 - تحصين التاريخ الحضاري للبلاد وحماية ذاكرتها التاريخية من الاندثار. 2 مواجهة التشويه الاستعماري للتاريخ المغربي ولواقع المجتمع المغربي. 3 توفير المادة التاريخية للأجيال المقبلة حتى يتمكنوا من إتمام استقلال البلاد فكريا وثقافيا ولغويا وحضاريا. 4 توفير المادة التاريخية التي ستمكن من "إفادة المؤرخين غدا"، ومن إنجاز "التاريخ العام للمغرب". ونكتفي هنا بنصين من نصوص المختار السوسي الوافرة التي تتضمن تنصيصه الواضح على تلك المقاصد. يقول في "سوس العالمة": "وكم مدارس وزوايا علمية إرشادية في هذه البوادي لا تزال آثارها إلى الآن ماثلة للعيون، أو لا تزال الأحاديث عنها يدوي طنينها في النوادي، فأين ما يبين كنه أعمالها وتضحية أصحابها، وما قاساه أساتذتها وأشياخها في تثقيف الشعب وتنوير ذهنه، وتوجيهه التوجيه الإسلامي بنشر القرآن والحديث، وعلوم القرآن والحديث، من اللغة والبيان والفقه وسيرة السلف الصالح؟ أفيمكن أن يتكون التاريخ العام للمغرب تاما غدا إذا لم يقم البناء اليوم - والعهد لا يزال قريبا، ولما تغمرنا أمواج هذه الحضارة الغربية الجارفة التي تحاول منذ الآن حتى إفساد ماضينا بما يكتبه عنا بعض المغرضين من أهلها - بجمع كل ما يمكن جمعه (.....)". ويقول في مقدمة "المعسول": "نحن نوقن أنه سيأتي يوم يثور فيه أولادنا أو أحفادنا ثورة عنيفة ضد كل ما لا يمتّ إلى غير ما لآبائهم من النافع المحمود. ثم يحاولون مراجعة تاريخهم ليستقوا منه كل ما في إمكانهم استدراكه. فلهؤلاء يجب على من وفّقه الله من أبناء اليوم أن يسعى في إيجاد المواد الخام لهم في كل ناحية من النواحي التي تندثر بين أعيننا اليوم. وما ذلك إلا بإيجاد مراجع للتاريخ يسجل فيها عن أمس كل ما يمكن من الأخبار والعادات والأعمال والمحافظة على المُثل العليا. بل يسجل فيه كل ما كان ولو الخرافات؛ أو ما يشبه الخرافات، فإن نهم من سيأتون في الغد سيلتهم كل ما يقدم إليه كيفما كان؛ ليستنتج منه ما يريد أن يعرفه عن ماضي أجداده." وهكذا يبدو المشروع التاريخي للمختار السوسي زادا لمن يريد سلوك طريق النهضة والتقدم، فيصبح التاريخ مادة لثورة فكرية في المستقبل، وليست مجرد حكاية أحداث. إنه منطلق لتغيير الواقع، وليس إقرارا للواقع كيفما كان. الخلاصة: يظهر بوضوح أن محمد المختار السوسي كان يمتلك مشروعا إصلاحيا واضحا، وسلك لتنفيذه وسائل محددة، تميز بها وتفوق فيها. إنه يرتكز في الإصلاح على الانتماء الإسلامي للمغرب منطلقا، لكنه انتماء ينسجم عنده مع البعد الوطني، في تداخل وتلاحم. واتخذ التعليم والتربية والتأريخ وسائل لمواجهة الاحتلال، وأدوات لبناء المستقبل على أسس متينة. وقد خرج مشروعه ضخما تنوء به فرق ومؤسسات كاملة، فأسدى بذلك لدينه ووطنه وأمته خدمات جلى، ووفى بوعده عندما قال وهو يتحدث عن استقراره في فاس طالبا: "تكونت لي في فاس فكرة دينية فرقت بها بين الخرافات المموهة، وبين الروحانيات الربانية، كما نبتت مني غيرة وطنية نسيت بها نفسي ومصالحي الشخصية، فأعددت نفسي فداء لديني ولوطني ولأمتي التي هي أمة العرب والإسلام جمعاء، وأنا بين هاتين الفكرتين السلفية الإصلاحية والغيرة الوطنية أسبح في آداب حية طلع بها هذا العصر الجديد".