يقول عز وجل في محكم كتابه الحكيم: "قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعو فله الاَسماء الحسنى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا" [الاِسراء، 109]. اختلف في تحديد المقصود بالدعاء وبالصلاة: قيل: المراد من الصلاة هو التشهد؛ وقيل: أي لا تحسن صلاتك في الجهر ولا تسئها في السر، بل اتبع طريقا وسطا يكون دائما في كل حالة؛ وقيل: لا تجهر بصلاة النهار ولا تخافت بصلاة الليل واتبع سبيلا من امتثال الأمر؛ وقيل: إن المقصود هو الصلاة مفروضة كانت أو نافلة.. ويبدو إن المعنى المقصود من الآيتين هو التخيير في الدعاء والنهي عن شدة الجهر .فالآيتان سيقت في مقام مقالي يرسخ في الناس التصور السليم لأسماء الله تعالى. و لهذا ما أن تتلى تليت آياته عز وجل على العالمين به فلا يسعم إلا أن يخروا بأذقانعهم ساجدين باكين، و مسبحين منزهين لقوله تعالى: "قل ءَامنوا به أو لا تومنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للاذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للاَذقان يبكون ويزيدهم خشوعا" [الاِسراء، 107-108]. كما أن المطلوب منهم، بالإضافة إلى السجود والتسبيح والبكاء والنزيه، هو تخصيص الله عز وجل بالحمد لأنه أعظم من يستحق الحمد لقوله تعالى: "وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا" [الاِسراء، 111]. أما مقامهما الحالي فتصوره جملة من الروايات: منها ما ورد عن ابن عباس: سمع أبو جهل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "يا الله يا رحمن". فقال أبو جهل: "إنه ينهانا أن نعبد إلهين وهو يدعو إلها آخر". منها ما نقل عن مكحول أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتهجد بمكة ذات ليلة يقول في سجوده: يا رحمن يار رحيم، فسمعه رجل من المشركين. فلما أصبح قال لأصحابه: انظروا ما قال بن أبي كبيشة يدعو الليلة الرحمن الذي باليمامة رجل يقال الرحمن فنزلت: "قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعو فله الأسماء الحسنى"[1]. وهكذا إن المعنى المقصود من قوله تعالى: "قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعو فله الأسماء الحسنى" هو تخيير المتضرع أو المسمي، إذ لا يقتضي تعددالأسماء تعدد المسمى، فيجوز أن يدعو المتضرع لله تعالى بهذا الإسم أو ذاك من أسماء الله تعالى الحسنى. وفي الحديث النبوي: "إن لله تسعة وتسعين اسما مئة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة، إنه وتر يحب الوتر"[2]. كما يجوز أيضا كما بين الإمام ابن عاشور: "أن يكون الدعاء مستعملا في معنى سموا، وهو حينئذ يتعدى إلى مفعولين. والتقدير: سموا ربكم الله أو سموه الرحمن، وحذف المفعول الأول من الفعلين وأبقي الثاني لدلالة المقام"[3]. أما المعنى المقصود من الصلاة فهو النهي عن شدة الجهر، خاصة في الصلاة. أي أن المقصود هو النهي عن شدة الجهر في تلاوة قراءة القرآن الكريم في الصلاة وابتغاء سبيل وسط بين المجاهرة والمخافتة. ولهذا يقدر حذف مضاف تقديره: ولا تجهر بقراءة صلاتك. وما يسند ذلك أن الآية سيقت في مقام حالي يتعلق بالرد على من سب القرآن المجيد. فقد جهر صلى الله عليه وسلم فسمعه المشركون فسبوا القرآن، ومن أنزله فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوسط ليسمع أصحابه المصلون ويذهب عنه أذى المشركين[4]. —————————————— 1. ينظر تفسير الطبري ج: 15، ص: 182 قال ابن عطية: "الأسماء الحسنى، أي التي تقتضي أفضل الأوصاف، وهي بتوقيف لا يصح وضع اسم الله بنظر إلا بتوقيف من القرآن أو الحديث" ينظر المحرر الوجيز، ج: 3 ص: 492. 2. ينظر صحيح البخاري، كتاب الإيمان، با ب بدء الوحي، رقم: 1. 3. ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، ج: 15، ص: 237. 4. الرازي، مفاتيح الغيب، ج: 21، ص: 64.