من الأهمية بمكان أن نسلط الضوء في هذه المقالة على عالمة جليلة عربية الأصل جرى الشعر في دمها وامتزج بمشاعرها ووجدانها اشتهرت بالصيانة والعفاف عاشت في بلاد الأندلس ذكرها ثلة من العلماء الأفاضل وأشادوا بدورها البارز في الساحة العلمية فكرا وسلوكا ومنهجا… وأصبحت مرجعا لا غنى عنه في الفنون الأدبية.. أنها ولادة بنت المستكفى بالله محمد بن عبد الرحمن بن عبيد الله الناصر عبد الرحمان بن محمد المروني من بني أمية بالأندلس[1]. امرأة جمعت بين العلم والأدب "جَزْلة القول، حسنة الشعر، وكانت تُمالطُ الشعراء وتُساجل الأدباء وتفوق البرعاء حسنة المحاضرة"[2]. كما كانت رحمها الله "واحدة في زمانها المشار إليها في أوانها حسنة المحاورة مشكورة المذاكرة مشهورة بالصيانة والعفاف[3] قال ابن بشكوال -رحمه الله- "سمعت شيخنا أبا عبد الله بن مكي"[4] رحمه الله يصف نباهتها وفصاحتها وحرارة ناذرتها وجزالة منطقها وقال لي لم يكن لها تصاون يطابق شرفها وذكر لي أنها أتته مغزية في أبيه إذ توفي رحمه الله سنة أربع وسبعين وأربعمائة..[5]. ويبدو من خلال هذه الأقوال أن عالمتنا الجليلة كانت واحدة من النساء الرائدات في مجال الأدب والشعر والحكمة لها قدرة كبيرة على الإبداع ومجالسة الشعراء وحب الاكتشاف، ودقة الملاحظة وحسن الانتباه.. ويظهر من أخبارها "أنها كانت حسن منظر ومَخْبر، وحلاوة مَوْرد ومَصدر، وكان مجلسها بقرطبة منتدى لأحرار المِصْر، وفناؤُها ملعبا لِجيادِ النَّظْم والنَّثْر يعشو أهلُ الأدب إلى ضوء غرّتها ويتهالك أفراد الشعراء والكتاب على حلاوة عشرتها، وعلى سهولة حجابها وكثرة مُنْتَابْها تَخْلِطُ ذلك بعلوِّ نصابها… وسموِّ أحْسَاب وطهارة أتواب[6] ونقلت زينب بنت فواز عن الفتح بن خافقان قال: "إن ابن زيدون كان يكلف بولادة ويهيم ويستضيء بنور محياها في الليل البهيم وكانت من الأدب والظرف وتتميم السمع والطرف بحيث تختلس القلوب والألباب وتعيد الشيب إلى أخلاق الشباب..[7] قال المقري -رحمه الله- و"كانت مع ذلك مشهورة بالصيانة والعفاف (…) ولقبت ابن زيدون بالمسدس، وهي تقول: ولقبت المسدس وهو نعت تفارقك الحياة ولا يفارق وقالت في بيت شعري وهي تهجو الأصبحي: يا أصبحي أهنا فيكم نعمة جاءتك من ذوي العرش رب المنن[8] ومن شعرها كذلك وهي تمدح ابن عبدوس الوزير: أنت الخصيب وهذه مصر فتدفقا فكلاكما بحر [9] وقولها وهي معجبة بنفسها وقد كتبت بالذهب على الطراز الأيمن.. أنا والله أصلح للمعالي وأمشي مشيتي وأتيه تيها[10] وقال في حقها ابن زيدون في أبيات شعرية يصف فيها حسن آدابها وروعتها إني ذكرتك بالزهراء مشتاقا والأفق طلْق ووجْهِ الأرض قد راقا وللنَّسيم اعتلالٌ في أصائله كأنَّما رقَّ لي فاعتلَّ إشْفَاقا والرَّوضُ عن مائِه الفضّي مبتسمٌ كما شقَقْتَ عنِ اللبَّات أطْواقَا ورد تألق في ضاحي منابته فازداد منه الضحى في العين إشراقا[11] مما لاشك فيه أن عالمتنا الجليلة هي من نوابغ الشاعرات الأندلسيات وهذا ما جسدته هذه الأبيات التي نبعت من قلب تشبع بالمعاني الأدبية وترسخت فيه المعاني الذوقية الفنية أشد ترسخ، وفي نظم شعري فائق التصور والمعنى يخاطب الوجدان ويوقظ فيه روح الإبداع الأدبي الساحر الشيء الذي جعل ولادة بنت المستكفي تحظى بشهرة واسعة في مختلف العصور التاريخية وبالإضافة إلى نظم الشعر كان لولادة بنت المستكفى بالله "صنعة في الغناء وكان لها مجلس يغشاه أدباء قرطبة وظرفاؤها، فيمر فيه النادر وإنشاد الشعر كثير لما اقتضاه عصرها من مثل ذلك[12]. ويبقى الحديث عن ولادة بنت المستكفي لا يكاد ينتهي نظرا لسيرتها التاريخية الحافلة بسلسلة من الوقائع والطرائف يستوحيها القارئ الكريم في بطون التأليف المتنوعة التي توسعت في ذكر أخبارها.. توفيت رحمها الله "يوم الأربعاء لليلتين خلتا من صفر سنة أربع وثمانين وأربعمائة يوم مقتل الفتح بن محمد بن عباد[13]. والله المستعان —————————————————— 1. بغية الملتمس في تاريخ رجال الأندلس، ص:547. أنظر كذلك "المطرب من أشعار أهل المغرب"، لابن دحية تحقيق إبراهيم الأبياري، وحامد عبد المجيد وأحمد بدوي، المطبعة الأميرية القاهرة ط1 1954م ص: 7 -10 2. الصلة لابن بشكوال، ج: 2، ص: 696، طبعة الدار المصرية للتاليف، والترجمة مصر 1966م. 3. الذر المنثور، في طبقات ربات الخدور، لزينب بنت يوسف فواز العاملية، ص: 545، طبعة مصورة عن الطبعة المصرية، 1312ه. 4. أبو عبد الله بن مكي بن أبي طالب القيسي جده مكي القيرواني المشهور بالزهد. 5. الصلة لابن بشكوال، ج: 2، 696. 6. المطرب من أشعار أهل المغرب، لابن دحية، ص: 8، نقلا عن الدخيرة في محاسن أهل الجزيرة، ج: 1، ص:376، لابن بسام الشنتريني، تحقيق سالم مصطفى البدري، دار الكتب العلمية بيروت، ط:1- 1998م. 7.الذر المنتور، ص: 542. 8. نفح الطيب، ج: 5، ص:337-338. 9. الذر المنتور، ص: 548. 10. الذخيرة، ج: 1، ص: 376. أنظر كذلك نفح الطيب ، ج: 5- ص: 337. 11. قلائد العقيان ومحاسن الأعيان، لابن خافقان تحقيق، د. حسين يوسف خريوش مكتبة المنار الأردن، ط1 1989م، ج:1- ص: 225-226. 12. نفح الطيب، ج: 5- ص: 179. 13. بغية الملتمس للضبي، ص: 547، وانظر كذلك الصلة، ج: 2-ص: 696.