المشروع الفلسفي بين الإبداع والإشراق في كتابات الدكتور طه عبد الرحمن 1. التشقيق اللغوي والنحت المصطلحي أكثر شيء شغل فكر الدكتور طه في بداياته الفكرية، كان مسألة فقه اللغة والأصول اللغوية للفلسفة؛ لأن اللغة هي حاملة الفكر وهي أداة التعبير عنه، وقديماً قال الفيلسوف اليوناني سقراط لأحد تلامذته "تكلم حتى أراك" والكلام جزء من اللغة. ومسألة اللغة هي من أكثر المسائل حضوراً في ذهنية الفيلسوف، وصعوبة (أو سهولة) الفلسفة لو وجدت فإنها توجد بالأساس في لغتها، فتكون اللغة والاصطلاح هي "كارت العبور" للدخول إلى التفلسف الصحيح. ومن لا يملك لغته لا يملك عقله! لذا جاء إدراك الدكتور طه لهذه المسألة مبكراً، وقد حشد لها كل ما أمكنه من عدة لغوية واصطلاحية بأحدث ما جد في فقه اللغة واللسانيات، وأفضل ما استحدث من نظريات جديدة تعالج المسائل اللغوية والفلسفية الشائكة. وقد عبر عن هذه المسألة في كتاباته الأولى بعدما تبلورت في ذهنه واختمرت عقله، فقال: "على الفيلسوف، قبل أن يتجه باجتهاده إلى التوعية بقدرة لغته الفكرية أن يميز لغته عما ليس من لغته، أو يتعارض ولغته عما هو لغو.. ولغونا يظهر في التشويه الذي لحق أصول لغتنا وبُناها وكبت فلسفتها [..]، وعلى الفيلسوف العربي أن يخلصنا من هذا اللغو الذي حال دون تحررنا العقلي، ودون إبداعنا الفكري، وبهذا تكون رسالة الفيلسوف العربي رسالة لغوية من منطلقها"[1]. بمهارة وخفة شديدة استطاع أن يمسك بمشرط اللغة ويبدأ في تشقيق ألفاظها واستخراج الجديد منها كأفضل جراح لغوي، لا يباريه في ذلك مفكرى زمانه الأفذاذ. يحفر في بنيات اللغة ويحرك اللسان حركات لطيفه وخفيفة، مريداً بذلك معرفة المسافات البينية التي تربط الحرف بالحرف وتعطي للكلمة منطوقها واللفظ دلالته! ويمكننا الإقرار بأن هذا المنطلق اللغوي والاصطلاحي كان من الأعمدة الرئيسة في مشروع الدكتور طه الفلسفي، فلا يخلو كتاب من كتبه من حفر لغوي جديد واستعمال لألفاظ راكدة، في إشارة منه إلي أن إهمال اللغة يحدث الانتكاس الفكري، والركود المعرفي، ويفسح المجال لرواج لغة الأخر، الأكثر قوة ومدنيّة، ولا يغيب عن أحد كم المفردات الغربية ذائعة الصيت في تراكيبنا اللغوية ومباحثنا الفكرية، ووراء ذلك ترجمة ليس فيها إبداع أو نقد أو تحليل، فجاءت ترجمة إتكالية تقتات على طاولة فكر غيرها.. يتبع في العدد المقبل.. —————————————————————– 1. الأصول اللغوية للفلسفة للدكتور طه عبدالرحمن: مجلة دراسات فلسفية وأدبية الصادرة عن الجمعية الفلسفية بالمغرب، السلسلة الجديدة، العدد الأول، 1976 –1977.