يعد الدكتور طه عبد الرحمن أحد الفلاسفة المعاصرين الذين تميزوا بإبداع مشروع فكري فلسفي حداثي، امتاز بعدة ميزات أهمها: الإبداع والاستحداث والتجديد، ليس في الفلسفة فحسب وإنما في العمل أيضاً. فلم تعد الفلسفة معه محض نظر وتأمل خالص وخالي من العمل، ولم يعد العمل شيء لا يعتد به في اعتبار النظر، أضحى الاثنين يدوران في فلك واحد ويرتبط أحدهما بالآخر ارتباط العلة بالمعلول والدال بالدلالة وما أكثر كلمات الفيلسوف التي تأتي في هذا المنحى وتسير في هذا المسار ابتداء من كتابه "العمل الديني وتجديد العقل" ومروراً بكتابه "سؤال العمل" ثم "سؤال الأخلاق" وغيره من الكتب التي تبحث في ضرورة العمل وأهميته وأنه يشكل روح الإنسان، وبخاصة الإنسان العربي إذا أرد لنفسه أن يخرج من عباءة التبعية والتقليد ويعيد تركيب حضارته والنظر إليها من جديد. والعمل نوعان: عمل ينتفع به وعمل غير صالح، وليس للإنسان غاية في الحياة ينشدها غير العمل الصالح النافع الذي ينتفع به وينفع به غيره. هكذا تكون الأخلاق في أجلى معانيها، ليست أخلاقاً نظرية ولا محض إدعاءات فكرية وإنما ضمانة لثبات العالم الإنساني وعدم اهتزازه أو اهترائه أو تخليه عن ماهيته التي خلق عليها! يقدم طه الأخلاق ضمانة لفلسفته وكل نتاجاته الفكرية، حتى أداته النقدية يصطنعها من الأخلاق بعد أن يمزجها بالمنطق، فيأتي نقده للحداثة نقداً أخلاقياً صريحاً وإبداعه للحداثة البديلة إبداعا خلقياً، يبدأ بالتربية الخلقية الفاضلة، وهذا يذكرنا بالمدينة الأفلاطونية المثالية التي بناها أفلاطون على المثل والقيم والمبادئ العالية الرفيعة. وعندما يذكر طه عبد الرحمن؛ فإنه بالتبعية يتم استحضار أداته المنطقية التي اصطنعا في صبر وأناة حتى أصبح واحد من أكبر المناطقة العرب في المنطق الصوري، فلا يخلو كتاب من منهجية منطقية وأفكار وضعت بدقة وصيغت بحنكة تذكرنا بإبداع فنان الأربيسك العربي الإسلامي القديم، تشكيلات هندسية ولكن في صورة فلسفية هذه المرة! وليست في صورة زخارف وفسيفساء.. يتبع في العدد المقبل