عمل أهل المدينة وهو من الأدلة الخاصة التي اعتمدها الإمام مالك وعمل بها ودافع عنها، ولعل رسائله إلى الليث بن سعد خير دليل على ذلك. يقول ابن أبي كف في الأصول المعتمدة لدى الإمام مالك: ثُمَّتَ إجمَاع وقَيس وعَمَل مَدينةِ الرَّسُول أَسْخَى من بَذَل استند المالكية في العمل بهذا الأصل على مجموعة من الأدلة نذكرها كالتالي: أولا: احتجاجهم بما ورد في فضل المدينة وأهلها من الأحاديث النبوية الشريفة، من ذلك ما جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الإيمان ليأْرِز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها"[1]، قال أبو مصعب الزهري في معنى هذا الحديث: "والله ما يأرز إلا إلى أهله الذين يقومون به، ويشرعون شرائعه، ويعرفون تأويله ويقومون بأحكامه. وما ذاك من رسول الله صلى الله عليه وسلم مدحا للأرض والدور، وما ذاك إلا مدحا لأهلها، وتنبيها على أن ذلك باق فيهم، زائل عن غيرهم حين يُرفع العلم، فيتخذ الناس رؤساء جهالا فيسألون فيقولون بغير علم فيضلون ويُضلون[2]، كما استدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: "المدينة كالكير تنفي خبثها"[3]، قال الولاتي: "والخطأ خبث فوجب نفيه عنهم"[4]. ثانيا: أن مالكا اتبع من كان قبله من الخلفاء والعلماء في العمل بما كان متداولا في المدينة، فقد قال عبد الله بن عمر: "كتب إليَّ عبد الله –يعني ابن الزبير- وعبد الملك بن مروان، كلاهما يدعوني إلى المشورة، فكتبت إليهما: "إن كنتما تريدان المشورة فعليكما بدار الهجرة والسنة"[5]. وقال رجل لأبي بكر بن عمرو بن حزم في أمر: "والله ما أدري كيف أصنع في كذا؟ فقال أبو بكر: يا ابن أخي! إذا وجدت أهل هذا البلد قد أجمعوا على شيء فلا تشكَّن فيه أنه الحق، وقال الشافعي أيضا: أما أصول أهل المدينة فليس فيها حيلة من صحتها"[6]. ثالثا: أن الإمام مالك يرى أن عمل أهل المدينة هو شعبة من شعب السنة المتواترة الفعلية التي يجب اتباعها وعدم مخالفتها لأنها نُقلت جيلا عن جيل من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عهد مالك، حيث أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك أهل المدينة وهي مقامه ومهبط الوحي التشريعي على وضع راشد، وأهل المدينة هم ألصق الناس وأعرف بالجانب التطبيقي العملي للوحي منذ نزوله إلى أن قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تناقلها جيل عن جيل، يقول الإمام مالك في رسالته الموجهة إلى الليث بن سعد: "فإنما الناس تبع لأهل المدينة، إليها كانت الهجرة، وبها نزل القرآن، وأُحل الحلال وحرم الحرام إذ رسول الله بين أظهرهم يحضرون الوحي والتنزيل، ويأمرهم فيطيعونه، ويَسُن لهم فيتبعونه، حتى توفاه الله واختار له ما عنده صلوات الله عليه ورحمته وبركاته"[7]. وقال أيضا: "انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة كذا في نحو كذا، وكذا ألفا من الصحابة، مات بالمدينة منهم نحو عشرة آلاف وباقيهم تفرق بالبلدان فأيهما أحرى أن يتبع ويؤخذ بقولهم؟ من مات عندهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين ذكرت؟ أو مات عندهم واحد أو اثنان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال عبيد الله بن عبد الكريم: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عشرين ألف عين تطرف"[8]. وقال ربيعة: "ألف عن ألف أحب إليَّ من واحد عن واحد لأن واحدا عن واحد ينتزع السنة من أيديكم"[9]. ————————————————————- 1. صحيح البخاري، كتاب: فضائل المدينة، باب: الإيمان يأرز إلى المدينة. 2. ترتيب المدارك، 1/36-37. 3. الموطأ، كتاب: الجامع، باب: ما جاء في سكنى المدينة والخروج منها. 4. إيصال السالك، 45. 5. ترتيب المدارك، 2/38. 6. ترتيب المدارك، 2/39. 7. ترتيب المدارك، 2/41. 8. ترتيب المدارك، 2/45. 9. ترتيب المدارك، 2/45.