الإجماع والوعي الجمعي في السياق المعاصر يُعدُّ "الإجماع"[1] عند جمهور علماء المسلمين ثالث مصادر التشريع الإسلاميَّ، بعد القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، ويحتلّ هذا الأصل في الفكر الأصولي مكانة رفيعة. إذ ظلّ طوال قرون الأصل المهيمن الذي يحتجّ به في إثبات دعوى ودحض أخرى، والمعيار الذي توزن به سائر الأدلّة. وقد بذل الأصوليون منذ الشافعي إلى اليوم[2]، جهودا كبيرة من أجل تقنينه وضبطه، كما اختلفوا في تعريفه، وفي تأسيسه، وفي إثبات حجيته (أي كونه أصلا)، وفي قبوله، وفي إمكان انعقاده، وفي كيفية حصوله، وفي تحديد زمنه الخ.. يقول الزركشي "وأطلق جماعة من الأصوليِّين بأنه حجَّة قطعيّة. وإنَّه يقدمَّ على الأدلة كلها، ولا يعارضه دليل أصلاً.. "[3]. وهو ما قرّره ابن حزم في كتابه مراتب الإجماع، قائلاً: "إنَّ الإجماع قاعدةٌ من قواعد الملَّة الحنفيَّة، يرجع إليه، ويفزع نحوه"[4]. والناظر في آي الذكر الحكيم، يجد جذور مصطلح الإجماع حاضرا في ثناياها، كما في قوله تعالى: "فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابات الجبِّ وأوحينا إليه لتنبِّئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون" [يوسف، 15]، وقوله جلَّ جلاله في السورة نفسها: "وما كنت لديهم إذ اَجمعوا أمرهم وهم يمكرون" [يوسف، 102]، وقوله سبحانه في سورة يونس "فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن اَمركم عليكم غمَّة" [يونس، 71]، وكذلك قوله عز وجل "فاجمعوا كيدكم ثم اَيتوا صفَّاً وقد اَفلح اليوم من استعلى" [طه، 63]. ونظرا لما يكتنزه هذا الأصل من إمكانات هائلة لرص جهود علماء الأمة وتكامل كسبهم في وظيفية ووحدة؛ فإن التشمير لإعادة استكشافه وتفعيله أضحى اليوم من أوكد الواجبات؛ فإنه لا يخفى أن وحدة الأمة وتماسكها، فريضة ثابتة، قال تعالى: "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا" [اَل عمران، 103]، وقال تعالى أيضا: "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين" [الاَنفال، 47]، وقال: "كنتم خير أمة أخرجت للناس" [اَل عمران، 110]. هذه الوحدة التي شملها القرآن المجيد بندائه: "يا أيها الناس"، وفي حين آخر بندائه: "يا بني آدم"، و"يا أيها الذين آمنوا"، حيث لا تبرأ ذمم المسلمين إلا بالسعي في سبيل تحصيلها، وتثبيت أركانها، وإقامة بنائها، وقد جعل سبحانه من وسائل تحقق هذا المبتغى اتباع "سبيل المومنين"، فقال سبحانه: "ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المومنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً" [النساء، 114]، وقال سبحانه أيضا: "ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون" [اَل عمران، 107]، وقال تعالى: "إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء" [الاَنعام، 160]، والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً مما يدل على وحدة الأمة عقيدة ومنهجاً، أمر واجب. يتبع في العدد المقبل.. الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء —————————————— 1. الإجماع بتعريف بعض الأصوليين هو: "اتفاقُ المجتهدينَ من أمَّةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم بعدَ وفاتِهِ، في عصرٍ من العصورِ، على حُكْمٍ شرعيٍّ". وعرَّفه آخرون بأنه: "اتفاقُ المُكَلَّفينَ من أمَّةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، في عصرٍ من العصورِ، على حُكْمِ واقِعَةٍ من الوقائِعِ". وقال آخرون هو: "اتفاقُ أمَّةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم خاصَّةً على أمْرٍ من الأمورِ الدِّينيَّةِ". 2. من تتبّع موارد استعمال هذا المصطلح في المدونات الأصوليّة يتبيّن له أنّ أهل العلم يطلقونه على أحد الأمرين: الأوّل: أن يتّفق المسلمون جيلا بعد جيل على نسبة قول أو فعل أو هيئة إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم؛ والثّاني: أن تُطْبِق كلمة مجتهدي عصر من العصور على حكم لدليل عيّنوه واتّفقوا على العمل بمقتضاه؛ 3. البحر المحيط في أصول الفقه، 4/443. 4. مراتب الإجماع، ص: 7.