تعرف الأمة الإسلامية في الوقت الحاضر أزمة خطيرة تتسم بالاقتتال بين الفرق و الجماعات التي تنتسب إلى الإسلام بمختلف تسمياتها و تجلياتها المتعددة، تارة فيما بينها، و تارة أخرى بينها أو بين بعضها و بين النظام الحاكم، مما أدى إلى زعزعة الاستقرار و الأمن في بلدانها و ما ترتب عنه من اضطراب في العقيدة و زلزلة الإيمان في قلوبها، و كأن هذا الوضع نتيجة الاختلاف بين الإخوة الأعداء من مختلف المذاهب و التيارات العقائدية و السياسية و الاجتماعية في عدة أمور و صار عليهم ما قوله أن الله لا يقبل من قوم شريعتهم إلا إذا صحت عقيدتهم يتحاكمون في أغلبها إلى اختياراتهم المذهبية بالأساس و إلى ما وضع لهم أعداؤهم من الداخل و الخارج، و ليس الحق بالباطل لا يعرف من يقتل من، و بذلك لم يجدوا عنها طريقا للخروج مما هم فيه من التخلف و التناحر فيما بينهم و لا تزيدها التدخلات الأجنبية إلا تعقيدا، حيث تزداد معه الدماء و أكوام الأشلاء إلا إصرارا، و هكذا يرجع السبب إلى ادعاءات لكل من تلك الجماعات حول النهج الذي تتبناه و كيفية إيجاد الحل للخروج من الأوضاع التي تعيشها الأمة، فالبعض منها يرى أن الحل يكمن في الرجوع إلى الدين، خاصة إلى ما كان عليه السلف الصالح، و تتهم الأخريات بالانحراف و الزيغ عن النهج الصحيح لما كان عليه السلف، و تأتي البعض منها أيضا لترى العكس، و كل منها تدعي إذن أنها على صواب، لكن الأفعال التي تقوم بها كل واحدة منها مخالفة لأقوالها كما هو الشأن بالنسبة للفرق التي نشأت في العهد الذي قتل فيه الخليفة الثالث عثمان بن عفان و ما يليه، و هو العهد الذي اندلعت معه الفتنة بين مختلف الفرق التي كانت بدورها تنتسب إلى الإسلام كالخوارج و المعتزلة و الرافضة و الباطنية و الجهمية و القدرية و الشيعة الخ. و مما جاء عن عدد من الرواة أن أغلب تلك الطوائف المخذولة تعادي أفضل الصحابة يغضبونهم و يسبونهم عياذا بالله و منها كذلك من يعادي و يطعن في بعض الخلفاء الراشدين الأمر الذي يدل على أن عقولهم معكوسة و قلوبهم منكوسة، و هذا ما وقع للطوائف المتناحرة و المتشابهة للفرق المشار إليها و الناشئة في بداية عهد الفتنة، و هو ما يقع الآن في كل من العراق ?سوريا ? ليبيا - مصر- اليمن و نسأل الله العافية بألا تمتد هذه العدوى ظاهرا و باطنا، خاصة إلى بقية البلدان التي تعثر فيها من حين لآخر على خلايا نائمة مرتبطة بتنظيمات الجماعات المقتتلة في البلدان المذكورة. كداعش وجبهة النصرة والقاعدة الخ و انطلاقا مما يفرضه الواجب على علمائنا توضيح المفهوم الصحيح للسلفية لإزالة ما شابها من شوائب و ما طالها من سوء للفهم و فساد في التأويل. و في هذا الصدد جاء عن أغلبية العلماء أن النهج الصحيح للسلفية هو الذي كان عليه الرسول صلى الله عليه و سلم، و يتعلق الأمر بالتمسك بالكتاب و السنة، و هو الذي صار عليه هو و أصحابه و علماء السلف من التابعين و من بعدهم أهل الخير و الأثر و أهل الفقه و النظر لا يذكرون إلا بجميل، و من ذكرهم بسوء فهو على غير سبيلهم مصداقا لقوله تعالى « « وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً (115 سورة النساء و قد وردت في شأنهم آيات قرآنية تبرز فضائلهم و مناقبهم الكثيرة و الجليلة منها «فالذين آمنوا و اتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون « سورة الأعراف « ،»إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله» « و الذين معه أشداء على الكفار رحماء « و هم الذين مدحهم الله و زكاهم و أثنى عليهم الرسول (ص) والذين صاروا على الطريقة الثابتة التي كان عليها النبي عليه السلام و أصحابه واجب كان أو مندوب و هو المراد أيضا بسنة الخلفاء و طريقتهم الموافقة لطريقته (ص) «احسنوا إلى أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» رواه احمد-الترمدي-ابن ماجة. فهذه الفضائل لا تكون لأحد غيرهم، و لن تكون لأحد من بعدهم، لذا فإن محبتهم واجبة، و هي من الإيمان فلا يبغضهم إلا منافق و لا ينقصهم إلا شقي هالك. و كذلك فالسلف الصالح يرضون عمن رضي الله عنه و يعادون من يعادي الله و هم متبعون و لا يبتدعون . و بذلك يجب على كل مسلم بعد موالاة الله و رسوله و مولاة المؤمنين كما نطق به القران و أجمع المسلمون على هدايتهم و درايتهم با لكتاب و السنة . و كما صار عليه خلفاء الرسول (ص) من أمته و علمائها الأخيار في أقواله و أفعاله و ما استنبطوا منها من أحكام فيهم قام الكتاب و فيه قاموا وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا وكلهم متفقون اتفاقا يقينيا على وجوب اتباع الرسول « ص» وإذا وجد لواحد منهم قول وجاء حديث بخلافه فلا بد له من تركه من عذر سواء من الصحابة و أهل السنة و الجماعة و حتى الخلفاء و هؤلاء هم الذين استنبطوا الأحكام من هذه الأدلة و بينوا فقهها و شرحوها للناس و أبعدوا عنها كل دخيل و كل كذب.. و بذلك يكونون قد قاموا بما أوجب الله عليهم من حماية الدين و العقيدة و اتبعوا السنة و الجماعة و تجنبوا الشذوذ و الخلاف و الفرقة .. و هؤلاء بالفعل هو السلف الصالح الذي يجب الاقتداء به، و بهذه الصفة يقول عنهم العلامة نصر الدين الألباني و «اتباعهم هدى و خلافهم ضلال» و يعني بالضلال الشذوذ في شيء و هو أن يختار المسلم قولا من أقوال الخلاف لدليل بدا له و لو كان الجمهور على خلافه، و أنه ليس في الكتاب و لا في السنة دليل على أنه كل ما كان عليه أصح مما عليه مخالفوه عند فقدان الدليل، خاصة إذا اتفق المسلمون على شيء دون خلاف يعرف بينهم، فمن الواجب اتباعه، أما عند الخلاف، فالواجب الرجوع إلى الكتاب و السنة ليتبين به الحق، و في هذا الصدد جاء في قول النبي عليه الصلاة و السلام لأصحابه «إنه من يعيش منكم فسيرى اختلافا كثيرا و عليكم بسنتي و سنة الخلفاء الراشدين المهذبين من بعدي تمسكوا بها و عضو عليها بالنواجذ و إياكم و محدثات الأمور فإن كل محدثه بدعة و كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار « وقوله أيضا «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» و بذلك فإن كل عبادة أو عمل يتقرب به العبد إلى الله و ليس عليه دليل في الكتاب و لا السنة و هو بدعة و ما أكثرها في مجتمعاتنا الإسلامية و العياذ بالله» وهكذا فقد ثبت في السنة الحديث الذي صححه الترمذي عن العرياض بن سارية أن الرسول صلى الله عليه و سلم قال «إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على اثنين و سبعين ملة و أن هذه الأمة ستفترق على ثلاثة و سبعين ملة كلها في النار إلا واحدة و هي الجماعة و تسمى المنصورة . وفي رواية أخرى قال ما هي يا رسول الله قال «ما أنا عليه و أصحابي» و هو حديث صحيح. أما بالنسبة لأخير القرون الزاهرة التي كان عليه صلى الله عليه و سلم هو و أصحابه، فقد جاء في كتاب الثمر الذاتي في تقريب المعاني المتعلق بشرح رسالة أبو زيد القيرواني «أن خير القرون القرن الذي رأوا فيه رسول الله (ص) و آمنوا به ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم جاء عنه ص عن عمران ابن حصين قال قال رسول الله عليه وسلم خيركم قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم أخرجه» البخاري في فضائل الصحابة . قال عمران لا أدري أذكر النبي صلى عليه وسلم بعد قرنين أو ثلاث. و أفضل الصحابة الخلفاء الراشدون المهديون أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم على رضى الله عنهم أجمعين و أن لا يذكر أحد من صحابة الرسول صلى الله عليه و سلم إلا بأحسن ذكر و الإمساك عما شجر بينهم و أنهم أحق الناس أن يلتمس لهم أحسن المخارج و يظن بهم أحسن المذاهب. و في هذا الحديث الأخير بين الرسول (ص) عامة المختلفين هنا يكون من الجانين إلا أهل السنة و الجماعة الذين تمسكوا بالكتاب و السنة و هم أفضل هذه الأمة برها قلوبا و أعمقها علما و هم قوم اختارهم الله لصحبة نبيه و إقامة دينه فاعرفوا لهم فضلهم و اتبعوه في أثارهم و أخلاقهم و دينهم فإنهم على الهدى المستقيم مصداقا لقوله تعالى « أن تطيعوا الله و رسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا» آية 14 من سورة الحجرات و يعني بلا يلتكم لا ينقصكم و سورة الحجرات تشير كذلك إلى أن المؤمنين أخوة تجمعهم رابطة الإيمان، و لا ينبغي أن تكون بينهم العداوة و البغضاء، كما أشارت إلى وجوب الصلح بين الفئات المقتتلة من المؤمنين بقوله تعالى « و إن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فاصلحوا بينهما |، فإن فاءت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي بغي حتى تفيء إلى أمر الله» آية 8 من نفس السورة. و عليه فإن نهج السلفية الذي يعتمد الكتاب و السنة يدعو إلى الاجتماع على الدين كما هو الشأن في الصلاة و الحج و ائتلاف القلوب و نبذ الخلاف و التفرقة، و هناك آيات قرآنية و أحاديث نبويه متعددة في هذا الإطار نذكر منها بعض ما يلي: بعد بسم الله الرحمن الرحيم: « واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا « آية 103 من سورة آل عمران « ومن يعتصم بالله فقد اهتدى إلى صراط مستقيم « آية 101 . « وان هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصكم به لعلكم تتقون آية 153 من سورة الأنعام. « ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم « الأنفال . اما بالنسبة للأحاديث فقد جاء على لسان النبي عليه الصلاة والسلام، الذي لا ينطق عن الهوى، عدة أحاديث تحذر المسلمين من الفتنة التي تتمخض عن التفرقة والاختلاف منها ما قوله « والله من الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتم « وقال أيضا « لا ترجعوا بعدي كفارا» يقتل بعضكم بعضا وهو ما أشار إليه القرآن في سورة النور « فليحدر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو عذاب أليم « وهكذا، ومن المؤكد في الواقع أن ادعاءات الجماعات المقتتلة المخالفة للنهج الصحيح للسلفية قد جاءت متناقضة في أفعالها كما تتناقض أيضا مع أحكام الشريعة الإسلامية السمحاء و تعاليمها كإباحة الكفر والظلم والقتل بغير حق أو فساد لإخوانهم في الدين وحتى من ذوي العهود أو الدميين الخ وعليه، فإن ما تقوم به لا صلة له بالنهج الصحيح للسلفية، ولو كان الأمر كذلك لباؤوا بنصر من الله سبحانه بقوله « إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم» آية 2 من سورة محمد. ولو كانت تلك الجماعات على هدى وبصيرة لاتخذت الجهاد في مواجهة إسرائيل المحتلة لأرض فلسطين، حيث تذبح أبناءها وتستحيي نساءها وليس الجهاد في إخوانهم المسلمين الذين ينتمون لخير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر والظلم والاستبداد. وعلى كل حال فإن الأمر يتطلب العلم قبل القول، والعمل وليس القيام بما تمليه الأهواء التي تتغير. ويستحوذ عليها الشيطان، لذلك جاء العلم ليحظى بمنزلة سامية عند الله كما نصت عليها آيات قرآنية « إنما يخشى الله من عباده العلماء» فاطر «وهل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون « سورة الحشر، كما أشركهم الله سبحانه في الإشهاد على وحدانيته بقوله في سورة آل عمران « شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولي العلم قائما بالقسط « والعلماء هم ورثة الأنبياء ولم يتركوا دينارا ولا درهما إنما تركوا العلم النافع، لذلك اعتبر من الأصول الأساسية في الدين الخ. ومما لا جدال فيه أن الأفعال التي تقوم بها الجماعات المذكورة تعبر عن جهالتها بالدين والسنة وبالأحرى السلفية السليمة أو الصحيحة التي لا تدعو إلى الأصولية المتشددة و الإرهابية التي لا تجلب لدولها ومجتمعاتها إلا الذل والمهانة وفساد في العقيدة و الدمار، ومن تم فإن السلفية تقبل بالتطور والحوار في جميع القضايا الخلافية بين بني آدم إلى جانب اعتماد وشرح القرآن وتفسيره علميا وإشاعة علم الحديث ونشره في الأوساط العلمية والانفتاح والحداثة وفتح باب الاجتهاد لتطوير التشريع لمسايرة مستجدات العصر في إطار السلفية بمفهومها الأصيل الرامي إلى الاقتداء بنهج السلف الصالح وأهل السنة والاستقاء من ينابيع العقيدة الصافية، وهذا اتجاه ديني متنور يعني الرجوع للينابيع الأولى للشريعة الحقة التي تنبذ جميع التداخلات المستحدثة ومقاومة البدع والتعصب والفكر الظلامي الأصولي المتزمت والإرهابي الذي أدى ويؤدي إلى انهيار المجتمعات الإسلامية، ولا يتأتى ذلك، بطبيعة الحال، إلا بتأهيل الحقل الديني وإسناد مسؤولياته للكفاءات الفقهية الموثوق بها في هذا المجال، ثم إصلاح المنظومة التربوية مع الحد من الفوضى التي عمت مسألة الإفتاء بدون علم وعدم تسييس الدين الذي يشكل كيانا أساسيا للحفاظ على سلامة المجتمعات في الدول الإسلامية العربية، هذا ما يتطلبه الأمر لهذه الدول ومن ضمنها المغرب، استنادا إلى ما جاء في الحديث النبوي الذي جاء في صحيح مسلم عن تميم الداري بقوله « الدين النصيحة « ولما سئل لمن يارسول الله قال صلى الله عليه وسلم « الله ولكتبه ولرسوله وللائمة المسلمين وعامتهم « وكذلك إلى ما يراه بعض العلماء من أنه لا يصلح آخر لهذه الأمة إلا بما صلح به أولها، والمراد بقولهم ما كان عليه السلف الصالح الموصوف أعلاه والذي يتبنى بالفعل النهج الصحيح للسلفية علما وعملا « ربي اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين امنوا إنك رؤوف رحيم» سورة الزمر « ربنا لا تزغ قلوبنا بعد أن هديتنا وهيء لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب» سورة آل عمران.