الاحتفال بمولد النبي عليه الصلاة والسلام بين الاتباع والابتداع الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم هو إحياء ليلة اليوم التي تتفق من كل سنة من شهر ربيع الأول مع ليلة يوم مولد الرسول صلى الله عليه وسلم، في جمع من الناس بالذكر والدعاء وقراءة القرآن وإنشاد المدائح وذبح الذبائح وإطعام الطعام، احتفاء بتلك الليلة وتكريما وتعظيما لها. وقد حدث هذا الأمر بين المسلمين بعد ما لم يكن منذ القرن الرابع الهجري في زمن الفاطميين. ويسميه البعض "عيد المولد النبوي"، ويطلق عليه البعض الآخر تحرجا في حيلة مفضوحة، ومغالطة مكشوفة اسم " ذكرى المولد النبوي"، لما يدل عليه اصطلاح العيد من قداسة وتعظيم، موهمين أنفسهم وكأن الأحكام تتبدل بتبدل الأسماء، "وهكذا هي الحيل سواء؛ فإن أصحابها يعمدون إلى الأحكام فيعلقونها بمجرد اللفظ، ويزعمون أن الذي يستحلونه ليس بداخل في لفظ الشيء المبدّل ، مع القطع بأن معناه معنى الشيء المبدل منه"(1). دون اعتبار منهم أن الأشياء تابعة لحقائقها ومسمياتها، ولا تزول بتبدل أسمائها، مادام الأصل متحدا ومحفوظا. والعجيب العجاب أن ما يقوم به هؤلاء في تلك الليلة، هو نفسه الذي يقوم به أولئك، مع اتحاد الزمان واتفاق المكان؛ {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ}(2) وأن ما يفعلونه ليس بدعة، وذلك فقط لمجرد كونهم لا يسمونه عيدا! وهذا الفعل أقل ما يوصف به، أنه تلاعب وتطويع قصد تمييع العلاقة بين ما هو سنة وما هو بدعة. وإلا فهو تحريف للكلم عن مواضعه، وصد عن السبيل، وتزيين للباطل. {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ}(3). محبة النبي أعظم من أن تختزل في إحياء ليلة. إنه لا مشاحة في الاصطلاح، سموه ما شئتم. فإن محبة النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه أصل عظيم من أصول الدين، وشعبة من الإيمان، وعبادة وقربى ترضي الرحمن، وهي تستلزم التأسي به، والاقتداء بسنته، والسير على نهجه، والتخلق بأخلاقه، والإذعان لحكمه، والقبول لما جاء به، وتصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أوجب وأمر، والابتعاد عما نهى عنه وزجر، والرضا بما قَنَّنَ وشرع، والذب عنه، والتصدي للمغرضين له، والتحذير من المتطاولين على سنته، ولا ينتسب إلا إليه، ولا يستدل إلا به. ومن أحب نبيه صدقا، وافقه في مراده، حتى يكون مأمور نبيِّه مأموره، ومنهي نبيِّه منهيه، ومندوب نبيِّه مندوبه، ومكروه نبيِّه مكروهه، وولي نبيِّه وليه، وعدو نبيِّه عدوه. وحسبنا قول ربنا في بيان لوازم محبته: { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ }(4)، قال القاضي عياض عند شرحه الآية: (فكفى بهذا حضا وتنبيها ودلالة وحجة على إلزام محبته، ووجوب فرضها، وعظم خطرها، واستحقاقه لها صلى الله عليه وسلم؛ إذ قرع تعالى من كان ماله وأهله وولده أحب إليه من الله ورسوله، وأوعدهم بقوله تعالى { فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ }. ثم فسقهم بتمام الآية، وأعلمهم أنهم ممن ضل ولم يهده الله)(5). لكن إظهار محبته عليه السلام بإحياء ليلة مولده واتخاذها ذكرى وعيدا تخلقا بأخلاق النصارى, لما في هذا الإحياء من المشابهة لهم في بدعة إحيائهم ليلة ميلاد عيسى عليه السلام. هو أمر لم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا خلفاؤه الراشدون، ولا غيرهم من الصحابة رضوان الله على الجميع، ولا التابعون لهم بإحسان في القرون المفضلة، ولا الأئمة المعتبرون الذين هم قدوة في الدين؛ كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، وهم أعلم الناس بالسنة، وأكمل حبا لرسول الله ومتابعة لشرعه ممن بعدهم. " مع قيام المقتضي لفعله في زمانهم وعدم وجود المانع لهم منه، ولو كان هذا خيرا محضا، أو راجحا؛ لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا، فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعظيما له منا، وهم على الخير أحرص"(6). بل أهل السنة في كافة الأقطار وسائر الأزمان ينكرونه ويحذرون منه. قال الإمام أبو حفص تاج الدين الفاكهاني المالكي رحمه الله: في كتابه "المورد في عمل المولد": (لا أعلم لهذا المولد أصلاً في كتاب ولا سنة، ولا ينقل عمله عن أحد من علماء الأمة، الذين هم القدوة في الدين، المتمسكون بآثار المتقدمين، بل هو بِدعة أحدثها البطالون، وشهوة نفسٍ اغتنى بها الأكالون)(7). وقال أبو عبد الله الحفار رحمه الله: ( وليلة المولد لم يكن السلف الصالح وهم أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والتابعون لهم يجتمعون فيها للعبادة، ولا يفعلون فيها زيادة على سائر ليالي السنة، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يعظم إلا بالوجه الذي شرع فيه تعظيمه، وتعظيمه من أعظم القرب إلى الله، لكن يتقرب إلى الله جل جلاله بما شرع، والدليل على أن السلف لم يكونوا يزيدون زيادة على سائر الليالي أنهم اختلفوا فيها، فقيل إنه صلى الله عليه وسلم ولد في رمضان، وقيل في ربيع، واختلف في أي يوم ولد فيه على أربعة أقوال، فلو كانت تلك الليلة التي ولد في صبيحتها تحدث فيها عبادة بولادة خير الخلق صلى الله عليه وسلم، لكانت معلومة مشهورة لا يقع فيها اختلاف، ولكن لم تشرع زيادة تعظيم)(8). شبهة والرد عليها من أطرف ما ادعاه بعض من انتصر لبدعة إحياء الاحتفال بليلة مولد النبي عليه السلام ورفع لواءها؛ دعواه أن صيام النبي – صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين، هو احتفال منه بيوم ولادته عليه السلام، وذلك بناء على ما رواه الإمام مسلم في صحيحه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم الاثنين فقال: "فيه ولدت وفيه أنزل علي"(9). بل زاد على هذا وادعى أن النبي عليه السلام كان يعظم يوم مولده ويحتفل به أسبوعيا(10)! وليت شعري أيعقل أن يحتفل الرسول بيوم مولده كل اثنين، وهذا يعادل على الأقل أربع مرات في الشهر، و يحتفل به هؤلاء مرة في السنة؟!! فأين هو إذن التأسي؟ وهل هكذا يكون التعظيم؟!! ثم هب - تنزلا- أن صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، كان احتفالا منه بيوم مولده، فلمَ يحتفل هؤلاء بغير الصيام، ويأتون بعكس فعله عليه السلام؟! في الواقع أن القائل بهذا القول اختلط عليه مدلول الشكر بمدلول التعظيم، فالرسول صلى الله عليه وسلم لما صام يوم الاثنين، صامه شكرا لله على أن منَّ عليه فيه بنعمة النبوة والرسالة، وليس تعظيما له. ولما شرع صيامه لأمته على وجه الاستحباب، شرعه لهم لكونه تعرض فيه أعمال العباد على الله، كما هو مسطر في كتب الحديث، ولم يثبت عنه عليه السلام أن أمر أصحابه بتخصيصه بعبادة غير الصيام. وخلاصة القول: أن محبة النبي ليست أشعارا وترانيم أو أناشيد وأمداحا؛ إنما هي طاعة واتباع، ونصرة واقتداء؛ {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ}(11). وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. (1) إعلام الموقعين عن رب العالمين 3/315 لابن القيم الجوزية. (2) سورة الأعراف الآية 30. (3) سورة محمد الآية 14. (4) سورة التوبة الآية 24. (5) الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم، 2/20. للقاضي عياض. (6) اقتضاء السراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم ص:290، لابن تيمية (7) ص:20. (8) مسائل العقيدة التي قررها أئمة المالكية ص 325، لمحمد بن عبد الله الحمادي. (9) لحديث تحت رقم 1978. (10) مجلة المجلس العددان الثاني والثالث، مقال الاحتفال بالمولد النبوي الشريف شبهات وردود، ص:82. (11) سورة القصص الآية 50.