الدكتور. عبدالسلام البكاري إن معرفة هذه المزايا وهذه الخصال وهذه الإرهاصات تستدعي كمال الإيمان بالنبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، وزيادة المحبة، إذ الإنسان مجبول على حب الجميل، ولا أجمل ولا أكمل من أخلاق هذا النبي الخاتم، فيكون تعظيمه مشروعا والاحتفال بيوم مولده الشريف جائزا بإظهار السرور والاجتماع للذكر وصنع الولائم وإكرام الفقراء والمساكين، ويؤخذ هذا الدليل من قوله صلى الله عليه وسلم عند فضل يوم الجمعة وعد مزاياه حيث قال : «فيه خُلق آدم» وهذا تشريف للزمان، فكيف باليوم الذي ولد فيه سيد الأنبياء، وإمام المرسلين. ورد هذا في فتح الباري لابن حجر العسقلاني 7/199. إن الاحتفاء بالمولد أمر استحسنه علماء الإسلام واستحسنه المسلمون في سائر بلاد الإسلام واعتاد عليه أهل المغرب عبر التاريخ الإسلامي وأجمعوا على الاحتفال به: فما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وما رآه المسلمون قبيحا فهو عند الله قبيح» أخرجه الإمام أحمد في مسنده. إن الاحتفال بالمولد يشتمل على اجتماع به ذكر ومدح وإطعام المستضعفين وتعظيم صاحب المولد، فهذا عمل يدخل في باب السنة المطلوبة شرعا وليس كل ما لم يفعله السلف ولم يكن في العصور الأولى بدعة منكرة يحرم فعلها ويجب الإنكار على من يفعلها بل على العقلاء من الناس عرض ما أحدث على الأدلة الشرعية الخمسة، فكل ما تضمن مصلحة فهو واجب، أو اشتمل على محرم فهو حرام أو مكروه فهو مكروه، أو على مندوب فهو مندوب، أو على مباح فهو مباح، وللوسائل حكم المقاصد كما يقال. وليعلم الناس أنه ليست كل بدعة محرمة، ولو كان الأمر بهذه السهولة، لما جمع أبو بكر رضي الله عنه المصحف الشريف، ولما كتبه في الصحف خوفا على ضياعه بموت الحفاظ من الصحابة، ولو كان الأمر كذلك لما جمع عمر رضي الله عنه المأمومين خلف إمام واحد في صلاة التراويح في رمضان، وأجاب: «نعمت البدعة هذه» ولو كان الأمر كذلك لما أوجد الناس السلاح الفتاك واستعماله، ولو كان الأمر كذلك لما سمح بالأذان على المنائر.... فكل هذا وغيره كثير في حياتنا اليومية لم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم ولا فعله أحد من الرعيل الأول من السلف، فهل فعلنا من قبيل البدعة؟ إن الاحتفال بالمولد الشريف فعلا لم يكن في عهده صلى الله عليه وسلم لكنه فعل جميل يندرج تحت الأدلة الشرعية والقواعد الكلية، فعند الإمام الشافعي رحمه الله: «ما أحدث وخالف كتابا أو سنة، أو إجماعا أو أثرا فهو البدعة الضالة، وما أحدث من الخير، ولم يخالف شيئا من ذلك فهو المحمود». وقال عليه الصلاة والسلام: «من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها، ولا ينقص من أجورهم شيء». والاحتفال بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم من هذا الباب، وبذلك يكون الاحتفال بذكرى المولد مشروعا في الإسلام مادام الاحتفال في أدب ووقار وإكرام الفقراء والمساكين وتلاوة القرآن وقراءة بعض قصائد المدح التي سمع بعضها في حياته صلى الله عليه وسلم ويمكن للقارئ أن يرجع الى دواوين حسان بن ثابت وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة... ومن الواجب الأكيد أن تكون الاحتفالات الخاصة بإحياء ذكرى المولد النبوي الشريف خالية من المنكرات المذمومة التي يجب إنكارها والنهي عنها مهما كانت وكيفما كانت وأن الحرص على التمسك بالسنة من الأمور المؤكدة في الإسلام. والاحتفال بالمولد الشريف يتضمن ذكر مولده ومعجزاته وسيرته والتعريف به صلى الله عليه وسلم. أو ليس المسلم مأمورا بمعرفته ومطالبا بالاقتداء به والتأسي بأقواله وأعماله والإيمان به وبما جاء به والتصديق بالقرآن الكريم الذين أنزل عليه؟! فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول عندما سئل عن صيام يوم الاثنين: «ذلك يوم ولدت فيه»، ألم يكن هو أول من احتفل بمولده صلى الله عليه وسلم،؟ وعندما رأى اليهود في المدينة يصومون يوم عاشوراء فسأل عن ذلك فقالوا: «هو يوم أغرق الله فيه فرعون ونجى موسى، فنحن نصومه شكراً لله تعالى» ، فقال صلى الله عليه وسلم: «نحن أولى بموسى منكم». وأورد الإمام السيوطي في كتابه: «عَرْف العريف بالمولد الشريف» قوله: «قد رئي أبو لهب بعد موته في النّوم، فقيل له ما حالك؟ ، فقال في النار، إلا أنه يخفف عني كل ليلة اثنين، وأمصُّ من بين أصبعي هاتين ماء بقدر هذا وأشار إلى رأس أصبعه وأن ذلك بإعتاقي لثويبة عندما بشرتني بولادة النبي صلى الله عليه وسلم، وبإرضاعها له». فإذا كان المشرك الكافر أبو لهب الذي نزلت في ذمه سورة من سور القرآن الكريم وهي سورة المسد، المتضمنة لخمس آيات وترقم في المصحف الشريف (ااا) جوزي في النار بسبب فرح ليلة مولد ابن أخيه محمد صلى الله عليه وسلم فما بال المسلم المؤمن الموحد من أمة المبعوث رحمة للعالمين، يسر بمولده ويبذل له المحبة ويقتدي بما جاء به ويفرح بمولده ويحتفي به..؟! ويقول الحافظ شمس الدين محمد الدمشقي: إذا كان هذا كافراً جاء ذمُّه بتبتْ يداه في الجحيم مخَلداً أتى أنه في الاثنين دائما يخفف عنه للسرور بأحمد فما الظن بالعبد الذي طول عمر بأحمد مسرورا ومات موحدا وهذا الخبر أخرجه الإمام البخاري في صحيحه: كتاب النكاح مرسلاً، وبالرغم من إرسال الخبر فهو مقبول عند العلماء. وقال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: «من فَرِح بنا فرحنا به». وأحسن ما يقرأ في هذا الباب ما أورده الفقيه الجليل السيد محمد بن علوي المالكي الحسيني خادم العلم الشريف بالبلد الحرام في كتابه الفريد: «الإعلام بفتاوى أئمة الإسلام حول مولده عليه الصلاة والسلام» (دار الكتب العلمية بيروت ط 1426/2005) حيث جاء في ص 307: أقوال العلماء في عمل المولد الشريف واجتماع الناس له وما يحمد من ذلك وما يذم ص (307 324) وهي أقوال لعلماء كبار اختلفت بين الجواز والكراهة والبدعة... واخترت من أقوال ما جاء به المؤلف ما أخرجه الإمام البيهقي بإسناده في مناقب الإمام الشافعي الذي قال فيه رحمه الله: «المحدثات من الأمور ضربان: أحدهما: ما أحدث مما يخالف كتاباً أو سنة، أو أثراً أو اجماعاً فهذه محدثة البدعة الضالة. ثانيهما: ما أحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذا، وهذه محدثة غير مذمومة. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قيام شهر رمضان: «نعمت البدعة هذه» . يعني أنها محدثة لم تكن، وإذا كانت ليس فيها رد لما مضى» انتهى قول الشافعي. فعرف بذلك منع قول الشيخ تاج الدين: «ولا جائز أن يكون مباحا» إلى قوله: «وهذا الذي وصفناه بأنه بدعة مكروهة» لأن هذا القسم مما أحدث وليس فيه مخالفة لكتاب ولا سنة، ولا أثر، ولا إجماع، فهي غير مذمومة كما جاء في عبارة الإمام الشافعي وهو من الإحسان الذي لم يعهد في العصر الأول، فإن إطعام الطعام الخالي من اقتراف الآثام إحسان، فهو من البدع المندوبة كما في عبارة ابن عبد السلام. وقوله: والثاني، هو كلام صحيح في نفسه، غير أن التحريم فيه إنما جاءمن قبل هذه الأشياء المحرمة التي ضمت إليه، لا من حيث الاجتماع لإظهار شعائر المولد بل لو وقع مثل هذه الأمور في الاجتماع لصلاة الجمعة مثلا لكانت قبيحة، ولا يلزم من ذلك تحريم أصل الاجتماع لصلاة الجمعة، وهو واضح وقد رأينا بعض هذه الأمور يقع في ليال من رمضان عند اجتماع الناس لصلاة التراويح، فلا تحرم التراويج لأجل هذه الأمور التي قرنت بها. كلا بل نقول: أصل الاجتماع لصلاة التراويح سنة، وقربة، وما ضُم إليها من هذه الأمور قبيح شنيع، ولذلك نقول: «أصل الاجتماع لإظهار شعائر المولد مندوب وقربة وما ضم إليه من هذه الأمور مذموم وممنوع.. وقوله: مع أن الشهر الذي وقع فيه...» جوابه أن يقال: إن ولادته صلى الله عليه وسلم أعظم النّعم علينا، ووفاته أعظم المصائب لنا، والشريعة حثت على إظهار شكر النعم والصبر ، والسكون والكتم عند المصائب، وقد أمر الشرع بالعقيقة عند الولادة، وهي إظهار شكر وفرح بالمولود ولم يأمر عند الموت بذبح ولا غيره، بل نهى عن النياحة وإظهار الجزع، فدلت قواعد الشريعة على أنه يحسن في هذا الشهر إظهار الفرح بولادة سيد الأنام صلى الله عليه وسلم، دون إظهار الحزن فيه بوفاته صلى الله عليه وسلم. فطوبى لمن عظم واحترم وطوبى لما اقتدى وتأسى، وكان من القانتين.