الإجماع: التصالح على المعنى قالت الشيعة بحجية الإجماع تبعا للنهج الدراسي السائد لدى أهل السنة،أي خضوعا لمنطق الضرورة المنهجية والعلمية،وظل البون شاسعا بين الفريقين فيما يتعلق بالمعنى الذي يعطيه كل واحد منهما للإجماع،فأعطاه الشيعة معنى الكشف عن قول "المعصوم"،أو اتفاق العلماء أحدهم "المعصوم"،وأعطاه أهل السنة معنى اتفاق المجتهدين جميعهم على حكم الواقعة،ولقد أدانا الوقوف على تفاصيل القول في المعنيين إلى ملاحظة أن الشيعة تصير بتصورها للإجماع إلى " طوباوية الكشف" (ولذلك نسب بعض علماء الأصول1 من أهل السنة للشيعة عدم القول بحجية الإجماع)، ويصير أهل السنة إلى التشكيك في إمكانية حدوث الاتفاق من جميع المجتهدين(ولذلك قال من قال :من ادعى الإجماع فقد كذب)،مما يستدعي قيام الفريقين بتصحيح يفضي إلى التصالح على معنى موحد للإجماع ،لما سيكون لهذا التصالح من إسهام بين في التأسيس المستقبلي للقاعدة القانونية للوحدة وتطويرها. ولا سبيل إلى كل ذلك من غير فهم "المنطق الداخلي" لبيان الشيعة وأهل السنة لمعاني الإجماع،وهو منطق يدور بين مدخولية الاعتبار الفردي أو مدخولية الاعتبار الجماعي في حجية الإجماع،والمراد بالاعتبار الفردي ما توليه الشيعة من أهمية لدخول الإمام بقوله أو شخصه في الإجماع، بحيث لا يصح إجماع بدون دخوله، ويكشف الإجماع – بهذا الشرط - عن رأي الإمام، ويقع الاختلاف في ما وراء ذلك بحسب وجود الإمام أو غيبته، وبحسب نوع الكاشف هل هو الحدس أو مجرد العقل، والمراد بالاعتبار الجماعي ما عند أهل السنة من بناء حجية الإجماع على مناط اتفاق المجتهدين واجتماعهم على قول. الشيعة ومدخولية الاعتبار الفردي (الإمام) في الحجية تتسم مناقشة الشيعة لهذا الاعتبار بانعطافتين: انعطافه نحو الخارج يرمون من خلالها – وهم ينظرون إلى أهل السنة في مقام الاستماع- إلى إثبات الإجماع كدليل ثالث من الأدلة الشرعية ، وانعطافه داخلية يرمون من خلالها بيان طرق الكشف عن قول الإمام. أولا: الانعطافة نحو الخارج الإجماع دليل ثالث لقد حكى الشيخ أسد الله الكاظمي اتفاق جمهور المسلمين من الخاصة والعامة على حجية الإجماع، وهو يعني بالخاصة الشيعة الإمامية، وبالعامة المخالفين وعلى رأسهم أهل السنة، كما يعني بالإجماع الإجماع المحصل الذي هو أحد نوعي الإجماع المعروف لدى الشيعة الإمامية، أما النوع الآخر فهو الإجماع المنقول. 1- الإجماع المحصل وهو "ما ثبت واقعا وعلم بلا وساطة النقل"2 أو "هو الذي يحصله المجتهد بنفسه بدون واسطة وذلك بأن يطلع على آراء المجتهدين فردا فردا حين إجماعهم على الحكم الشرعي المحصل"،3 وصرح الكاظمي أنه لا يعلم خلافا في حجيته، وإنما الخلاف في علية الحجية ودليلها، فمبنى الحجية لدى الشيعة الإمامية على قاعدة اللطف التي مؤداها "أن الأرض يمتنع خلوها من حجة منصوب من قبل الله سبحانه عالم بكل ما تحتاج إليه الرعية، حافظ للشريعة المرعية، معصوم من الخطأ والزلل في القول والعمل"،4 فالله لا يخلي الأرض من إمام حجة "ولو خلت ساعة لساخت الأرض ومن عليها"،5 واشترطوا بناء على هذه القاعدة دخول الإمام المعصوم في المجمعين، قال الشيخ المفيد: "إن إجماع الأمة حجة لتضمنه قول الحجة، وكذلك إجماع الشيعة حجة لمثل ذلك دون الإجماع، والأصل في هذا الباب ثبوت الحق من جهته بقول الإمام القائم مقام النبي صلى الله عليه وسلم ، فلو قال وحده قولا لم يوافقه عليه أحد من الأنام لكان كافيا في الحجة والبرهان، وإنما جعلنا الإجماع حجة به وذكرناه لاستحالة حصوله إلا وهو فيه، وهذا مذهب أهل الإمامة خاصة"،6 ومن التوابع التي ذكرها الكاظمي لقاعدة اللطف 7 : أ- بعد غياب النبي صلى الله عليه وسلم يقوم الإمام المنصوص عليه – وفقا للاعتقاد الإمامي- مقامه، وقد دل على وجوده في كل عصر إما وجودا ظاهرا أو خفيا. ب- حكم الإجماع في الأعصار المتأخرة عن النبي صلى الله عليه وسلم هو حكمه بعينه في عصره. وذكر أيضا من صور دخول النبي صلى الله عليه وسلم أو الإمام في المجمعين:8 أ- إذا أجمع المسلمون قولا أو فعلا على أمر من أمور الدين وكان النبي أو الإمام معهم وعلم رضاه قولا أو فعلا أو تقريرا، كان الإجماع حجة شرعية وقطعية، واستغنى عن دليل الحجية. ب- إذا دخل قول النبي أو الإمام في المجمعين دون أن يتميز ذلك القول، ولكن حصل التضافر والتسامع من كل جانب بأن الجميع مطبق على ذلك القول كان الإجماع حجة. أما صور دخول أقوال الأئمة بعد مضي النبي صلى الله عليه وسلم في الإجماع فإنها تختلف باختلاف وجوه الاعتبار:9 أ- فإذا اعتبرت أقوال علماء عصر معين أخذ بقول إمام الوقت أو بقول من يحكمه من ولده. ب- إذا اعتبرت أقوال جميع علماء الأمة في كل العصور نظر إلى قول إمام الوقت وقول من سبقه من الأئمة. ج- إذا اعتبرت أقوال علماء الشيعة خاصة ليعرف منها قول الإمام أو رأيه أو قول ورأي من سبقه خرج الإمام منهم. وقد أثارت مسألة جعل العلة في حجية الإجماع هو الكشف عن قول الإمام المعصوم أو رأيه نقاشا واسعا حول الجدوى من القول بدليل الإجماع أصلا، واعترف الشيخ محمد رضا المظفر بأن اعتبار الإمامية للإجماع دليلا ثالثا هو "من ناحية شكلية واسمية فقط مجاراة للنهج الدراسي في أصول الفقه عند السنيين"،10 وأفاد الكاظمي قبله أن "العامة" هم الأصل في إطلاق تسمية الإجماع،11 وأنهم هم البادون بهذا الاصطلاح،12 وأن وقف الحجية على دخول قول الإمام يصير الإجماع "لغوا عريا عن الفائدة على مذهبنا"،13 وبذلك يتوجه انتقاد المخالفين ودعوتهم الإمامية إلى العدول عن القول بحجية الإجماع إلى القول بحجية قول الإمام مع تعيينه (أي القول).14 لكن الشيخ الكاظمي يدفع بأسباب تسمية الإجماع فيذكر سببين رئيسيين منها: 1- المماشاة مع الخصوم: أولا في مقام الإلزام لهم بما هو معتقدهم. فالمخالفون لا ينزلون الأئمة أكثر من منزلة العلماء العارفين بالأحكام الشرعية، بحيث إذا أجمعوا على أمر كان حجة سواء اشتمل ذلك الأمر على قول الإمام أم لم يشتمل "وإذا عرضوا علينا حكم ذلك جرينا نحن ابتداء على طريقتهم من باب المماشاة أو غيرها لزمنا القول بحجيته مع اشتماله على قوله ولم يهمنا المشاحة في اسمه"،15 وثانيا في مقام المحاجة معهم وذلك بالرد عليهم بإجماع جماعة غيرهم وهم الإمامية "الذين دلت أدلة العقل والنقل على كونهم الطائفة المحقة والفرقة الناجية وفيهم الحجة وإن لم يتميز بشخصه ولم يعرف بعينه فيستعمل الإجماع فيما اصطلح عليه القوم من نفس الاتفاق العام أو الخاص".16 2- عدم وجود عبارة عن نفس قول الإمام أو رأيه : مما يقتضي النظر إلى "الاتفاق الكاشف تضمنا أو التزاما"17 عن ذلك القول أو الرأي، وبذلك "يكون للاتفاق بمعناه المتعارف مدخل في الحجية"،18 ويستشكل نفي الكاظمي لوجود عبارة عن نفس قول الإمام أو رأيه، إلا أن الإشكال يرتفع إذا علمنا أن الإمامية تدخل قول الإمام في التعريف العام للسنة الذي هو قول الإمام أو فعله أو تقريره،19 مما يحمل على الاعتقاد أن نفي وجود العبارة إنما هو في زمن غيبة الإمام لا في زمن وجوده، وهو ما يتوافق مع ما أشار إليه الشيخ من أن المشهور بين الإمامية "حتى كاد أن يكون مجمعا عليه عندهم، بل لم يتفقوا على مسألة أصولية كاتفاقهم عليه هو أن فائدة الإجماع إنما تظهر في زمن الغيبة"،20 ويختار الشيخ في الأخير الجمع بين من يجعل الإجماع دليلا ثالثا ومن لا يجعله كذلك، ومقتضى جمعه القول " بانحصار وجه حجية الإجماع على أن يكون من الحجج القطعية في دخول الإمام بعينه في أقوال المجمعين".21 وأفاد الشيخ محمد صادق الصدر تراجع متأخري الإمامية عن القول بكشف الإجماع عن دخول الإمام بشخصه أو قوله عندما قالوا: إن العلم بحصول اتفاق الطائفة على حكم يعلم منه أن رئيسها على ذلك الحكم،22وبذلك يصير نفس الإجماع والاتفاق حجة، وهذا هو لازم قول الشيخ الصدر: "إني أرى عدم دلالة الإجماع زمن الغيبة على الكشف عن دخول المعصوم بشخصه أو قوله"،23 لأن اشتراط الكشف في حجية الإجماع لا معنى له، وفيه تعسير لمهمة المجتهدين إذ "نطلب منهم إن أجمعوا أن يكشفوا عن قول المعصوم ورأيه ليصبح الإجماع حجة في حين أن عدالتهم تأبى أن يجمعوا على باطل، وعلمهم يأبى عليهم أن يصدروا الحكم دون مستند قوي يمكن الاعتماد عليه"،24 ووجه ترجيح هذا الرأي أننا في زمان غيب فيه في الثرى أشخاص المختلف فيهم (الأئمة والخلفاء)، وعليه "إذا حصل الإجماع من كافة المجتهدين كان المستند حينئذ للحكم هو سبب الحجية لأننا نعلم أنهم لا يصدرون حكمهم بغير مستند ولا يجمعون علي باطل لورعهم وكفاءتهم العلمية الممتازة".25 وبهذا يحصل الاتفاق بين الشيعة وأهل السنة على أن مناط حجية الإجماع هو عين اتفاق المجتهدين على حكم. 2- الإجماع المنقول وهو " ما طريق ثبوته واقعا هو النقل المتعلق بنفسه إما بلفظه أو بما في معناه أو في حكمه"،26 وهو "الذي لم يحصله المجتهد بنفسه وإنما وصل إليه عن طريق النقل"،27 والنقل إما أن يكون بالتواتر أو بالآحاد، فحكى الشيخ الصدر حجية الإجماع المنقول بطريق التواتر عند جميع الإمامية، وقصر اختلافهم على الإجماع المنقول بطريق الآحاد"،28 وذكر أن عدم حجيته أمر مفروغ منه عند الإمامية "بحيث لا يحتاج نفي الحجية إلى إثبات"،29 خلافا لما ذكره الكاظمي الذي ذهب إلى القول بحجية الإجماع المنقول بالآحاد إذا احتف بالقرائن، وفي سياق ذكر الكاظمي لأسباب الاختلاف في الإجماعات المنقولة نبه على أن أكثر علماء الإمامية "ادعوا الإجماع في أكثر المسائل سواء ظهر الاختلاف فيها أم لا، وافق الروايات المنقولة فيها أم لا"،39 والرأي عندي –والله أعلم- أن عدم انضباط معنى الإجماع لدى الإمامية هو السبب في كثرة دعاوي حصول الإجماع، فلما كان مناط حجية الإجماع ليس نفس الاتفاق بل هو الكشف عن قول المعصوم، فلا عبرة بأقوال مائة من العلماء إن خالفهم المعصوم، والعبرة بقول الواحد والاثنين إن تحقق دخول قوم المعصوم، فأصبح بوسع كل أحد أن يدعي تحقق الدخول وبالتالي تحقق الإجماع، هذا فضلا عن أن الكشف وصف غير ظاهر ولا منضبط وهوأمر اعتباري يختلف من شخص لآخر، وهو "من الأحكام الذهنية والاعتقادات العقلية وليس من الأدلة الخارجية المنصوبة لمعرفة الأحكام من الكتاب والسنة".40 وخلص الشيخ الكاظمي إلى "عدم الاستدلال بالإجماع المنقول على وجه الاعتماد والاستقلال إلا نادرا ورده غالبا ولاسيما إذا صدر من المعاصر، فلا يتصور له جدوى إلا في نادر من المسائل بالنسبة إلى قليل من العلماء ومتبحر من النقلة الأفاضل"،41 ولأن النادر من تلك المسائل قد احتف فيها الإجماع بما كان ذكره من القرائن 42 التي شاركه في التنبيه عليها الشيخ الآخوند محمد كاظم الخراساني 43 بالقول: "إن الإجماعات المنقولة في ألسنة الأصحاب غالبا مبنية على حدس الناقل أو الملازمة عقلا، فلا اعتبار لها ما لم ينكشف أن نقل السبب كان مستندا إلى الحس، فلا بد في الإجماعات المنقولة بألفاظها المختلفة من استظهار مقدار دلالة ألفاظها ولو بملاحظة حال الناقل وخصوص موضع النقل، فيؤخذ بذالك المقدار ويعامل معه كأنه المحصل"،44 والإجماعات المنقولة العارية عن القرائن يستند القائلون بحجيتها إلى الحدس على أساس المماثلة بينها وبين أخبار الآحاد، وهو ما لا يسلم الشيخ محمد صادق الصدر به لأن "الخبر شيء والإجماع شيء آخر، ذلك أن المقصود بالأخبار أن ينقل المخبر الخبر الذي سمعه من الإمام بنفسه بدون واسطة، فإذا كان المخبر ثقة أخذ بأخباره وكان خبره حجة، أما الإجماع المنقول فإن المخبر عن وقوعه لم يشاهد الإمام كما أنه لم يسمع منه القول، وإنما يحدس ضمن المجمعين وفرق واضح بين الحس والحدس"،45 إلا أن الشيخ كاظم الخراساني يرى العمل بخبر الثقة سواء استند إخباره إلى حس أو إلى حدس،46 والإجماع المنقول بخبر الواحد المستند إلى الحس فتشمله أدلة حجية خبر الواحد".47 وبلغ الوحيد البهبهاني شأوا بعيدا في تأكيد حجية الإجماع ووجوب الرجوع إليه عندما قال: "الإجماع عند الشيعة هو اتفاق جماعة يكشف عن رأي المعصوم، ومقدمات الحدس بحيث تفيد القطع مختلفة فمنها: بعيدة كثيرة الخطأ يصعب القطع منها، ومنها قريبة يسهل تحصيل القطع منها لابتنائها على أمور عادية يسهل القطع منها بمجرد ملاحظتها غالبا وهذه عزيزة الوجود جدا، والمعتبر من الإجماعات المحكية في هذه الأعصار وما شابهها من أزمنة الغيبة إنما هو هذا القسم منها، فحينئذ لم يبق من الأدلة إلا الكتاب والسنة، وليس في الكتاب وفاء للأغلب من الأحكام جزما، إذ ليس فيه إلا الإطلاقات والعموميات وهي غالبا مسوقة لأصل التشريع وبيان أصل الحكم في الجملة،فهي في الحقيقة شبه القضايا المهملة فهي غير نافعة في تفاصيل الأحكام أصلا وكلية، فلم يبق من الأدلة إلا السنة، وحيث كان في الأخبار التي بين أيدينا الصحيح والسقيم كان اللازم الرجوع إلى هذا الفن (أي الإجماع)"،48 لقد استبان بما ذكر في هذه الانعطافة نحو الخارج إجماع الإمامية على حجية الإجماع المحصل، واختلافهم في الإجماع المنقول بخبر الواحد بحيث صار أكثر المتأخرين إلى الاعتداد بالمحتف منه بالقرائن، وإذا كان بناء الإمامية لحجية الإجماع على قاعدة اللطف قد أثار خلافات كبيرة مع أهل السنة، فالأجدر اليوم الأخذ برأي الشيخ محمد صادق الصدر المعتبر لمجرد الاتفاق العام من المجتهدين ولا يرى "دلالة الإجماع زمن الغيبة على الكشف عن دخول المعصوم بشخصه أو قوله".52 ثانيا: الانعطافة نحو الداخل طرق الكشف عن قول الإمام يأتي الحديث عن طرق الكشف في سياق ذكر وجوه حجية الإجماع، وقد ذكر الشيخ الكاظمي من هذه الوجوه اثني عشر باعتبار الكاشف: 1- أن يستكشف رأي الإمام –لأنه هو المتبوع والمطاع- من اتفاق الأتباع،53 وتتعدد صور الاتفاق والكشف بحسب اختلاف الأحوال والأزمنة:54 أ- فإن وقع الاتفاق وفي العصر أحد الأئمة، فيكشف اتفاق الأتباع قولا أو فعلا عن قوله، والعبرة ببلوغهم من الكثرة حدا يحصل به الكشف. ب- إن وقع الاتفاق في أزمان من أتى بعد من الأئمة وشيعتهم وأصحابهم وكان المجمعون قريبي العهد بالإمام متمكنين من أخذ الأحكام عنه شفاها، فاتفاقهم يكشف عن أنه لم يتحقق إلا عن حجة مأخوذة من الأئمة. ج- إن وقع الاتفاق في سائر الأزمنة المتأخرة وما بعد الغيبة، فيحصل الكشف في بعض المسائل لاعتبارين:55 الأول: لاختصاص الإمامية – في رأي الشيخ- بالحق والنجاة. ثانيا: تظافر النقل والتسامع به "بحيث يقتضي كون ذلك مذهبا لجميع الأمة أو المؤمنين أو علمائهم خاصة"،56 فيعول في هذا الوجه الأول على ما سماه الشيخ طريقة التابعية والمتبوعة – وهي من ذيول قاعدة اللطف- وطريقة التظافر والتسامع.57 2- أن يستكشف قول الإمام من وجود مجهول النسب في المجمعين "ومعنى وجود مجهول النسب المحكوم بأنه الإمام هو وجوده في جملة المجمعين فلا يحتاج إلى العلم به وبقوله مستقلا منفردا عنهم".58 3- أن يستكشف قول الإمام من اتفاق العلماء على حكم وعدم دفعهم عنه بناء على قاعدة اللطف".59 4- هو نفس الوجه الثالث، إلا أن المبني هنا هو قاعدة التقرير المتوقف على قاعدة العصمة، نظرا لامتناع النكير على المجمعين،60 والفرق بين هذا التقرير والتقرير المعدود جزءا من السنة، هو أن الأول يستند إلى المشاهدة والثاني منوط بالاتفاق ويعلم بالنظر والاستنباط.61 5- هو أحد الوجهين السابقين إلا أن "مرجع هذا إلى تصويب المجتهد ومقلديه في العمل بما أدى إليه نظره وأخذه منه غيره بعد استفراغ الوسع واستجماع الشرائط".62 6- أن تستكشف الحجة العلمية القاطعة والموافقة لقول الإمام من اتفاق العلماء الثقات، والعمدة في هذا الوجه "مزيد الفضل والورع".63 7- قال الشيخ عن هذا الوجه: "هو الذي نعتمده ونعول عليه، ويمكن تنزيل الكلام بعض المتأخرين والمعاصرين عليه وهو السادس إلا أنه لا يعتبر فيه استكشاف حجة علمية بل مدرك معتبر سالم عن معارض، وأصلي معتد به".64 8- أن يستكشف من اتفاق أصحاب الأئمة وجود نص قاطع، فإن علم اتفاقهم فيكشف: أولا: عن وجود نص قاطع بلغهم وخفي عن غيرهم. ثانيا: عن وجود احتفاف الرواية بشروط الصحة والخلو من الكذب والسهو والتقية. ثالثا: عن وجود هذين الشرطين فيما رجحوه.65 9- المعتمد في اكتشاف قول الإمام في هذا الوجه على ملاحظة السيرة المستمرة للأمة أو الإمامية بحيث يعلم إجماعها على رأي دون معارضة أو نكير، ومبنى السيرة هنا على أمرين: الأول: عدم ثبوت نص أو إجماع مناف للسيرة. الثاني: عدم ثبوت حكم قاطع للعقل مناف للسيرة.66 10- أن يستكشف قول الإمام من إطباق الروايات والأخبار – التي تنقلها الإمامية في مراجعها المعتمدة- على حكم، بحيث لم يظهر راد لتلك الأخبار أو ظهر رد ولكنه شاذ ولا مستند له.67 11- أن يستكشف قول الإمام من تتبع قواعد العلماء في الفقه والأصول "لأن الإجماع على القاعدة التي هي الأصل إجماع في الحقيقة على أفرادها التي هي فروعها".68 12- أن يستكشف قول الإمام من نقل "أحد سفرائه وخدمته 69 سرا على وجه يفيد اليقين أو بتوقيعه وكاتبته كذلك أو بسماعه منه مشافهة على وجه لا ينافي امتناع الرؤية في زمن الغيبة".70 ويورد الشيخ الكاظمي انتقادات على هذه الوجوه منها: إن الوجه الأول قليل النفع نظرا لعدم انضباطه، ولعدم اختصاصه بمذهب الإمامية، إذ يمكن أن يستند إليه المخالفون لعدم ابتنائه على قاعدة اللطف، وابتنائه على قاعدة التابعية والمتبوعية العامة".71 أن الاستناد في الوجه الثاني إلى وجود مجهول النسب فيه نظر، لأن الإمام معلوم الإسم والنسب وإن كان غير معلوم الشخص والمذهب، كما أنه إذا أمكن على هذا الوجه استكشاف قول الإمام الغائب أمكن أيضا استكشاف قول النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أمر غير مسلم به، فهذا الوجه "على اشتهاره قليل الجدوى".72 إن الاستناد في استكشاف قول الإمام إلى دلالة التقرير يلزم منه تقرير العلماء عند اختلافهم على التناقض.73 إن الاستناد في الاستكشاف إلى وجود أخبار متعاضدة ومتوافقة مبني على كون عدم الرد علامة القبول وهو غير صحيح، ومبني على العادة وهو غير مسلم به، لأنه لم تجر العادة بإطلاع السلف على كل ما في الكتب، ولم تجر العادة باكتفاء الخلق بالسكوت، وينبني على إثبات القول بالدليل لا الدليل بالقول كما هو مبنى الإجماع.74 وأكثر الوجوه السالفة الذكر مبنية على الحدس (الثاني والسادي والسابع والثامن والتاسع والعاشر والحادي عشر) والأخرى مبنية على قاعدة اللطف إما عن طريق التضمن (الأول والثالث والثاني عشر) أو عن طريق الالتزام العقلي (الرابع والخامس)، وأفاد الشيخ الكاظمي أن شدة اختلاف هذه الوجوه كاد أن يجعل إدخال الإجماع "في الدلالة العقلية التي تختلف مدارك العقل ومسالكه فيها"75 هو الأولى، ولما رأى عدم صلاحها للكشف لأن معظمها مبني على مجرد الحدس صار إلى القول بوجوب "نقل السبب الكاشف عن أي دليل قطعي أو مطلق الدليل المعتد به"76 وهو السبب الذي اعتبر قرينة اختفت بالإجماع المنقول فصار كالمحصل،77 ولم يبعد الشيخ كاظم الخراساني عن رأي الشيخ الكاظمي، فلم ير في الطرق المبنية على اللطف بضميمة الملازمة العقلية والدلالة التضمنية أو الحدس ما يكشف عن قول المعصوم بما لا ينعقد به إجماع البتة فقال: "إنه قد مر أن مبنى دعوى الإجماع غالبا هو اعتقاد الملازمة عقلا لقاعدة اللطف وهي باطلة، أو اتفاقا بحدس رأيه (ع) من فتوى جماعة وهي غالبا غير مسلمة، وإما كون المبنى العلم بدخول الإمام بشخصه في الجماعة، أو العلم برأيه للإطلاع فيما يلازمه عادة من الفتاوى فقليل جدا في الإجماعات المتداولة في ألسنة الأصحاب كما لا يخفى، بل لا يكاد يتحقق العلم بدخوله (ع) على نحو الإجمال في الجماعة في زمان الغيبة، فلا يكاد يجدي الإجماع إلا من باب نقل السبب بالمقدار الذي أحرز من لفظه بما اكتنف به من حال أو مقال".78 ورأى الشيخ محمد صادق الصدر في طرق الكشف الثلاثة (التضمن، الالتزام العقلي، الحدس) تعبيرا عن أدوار ثلاثة مر بها القول في طرق الكشف: 1- في الدور الأول الممتد من الإمام علي إلى الإمام الثاني عشر، حيث كان الأئمة ظاهرين غير متخفين يحضرون المجالس الخاصة والعامة ذهب قدماء أصحاب الأئمة إلى أن العلماء إذا اتفقوا على أمر شرعي علم دخول الإمام في المجمعين تضمنا.79 2- في هذا الدور اشتهر رأي الشيخ محمد بن الحسن الطوسي وهو "أن الأمة إذا اتفقت على حكم، ولم يكن في الكتب أو السنة المقطوع بها ما يدل على خلافه تعين أن يكون حقا، وإلا وجب على الإمام أن يظهر ويظهر خلافه ولو بإعلام بعض ثقاته".80 3- دور العلماء المتأخرين حيث اشتهر القول بطريق الحدس، فبنوا على العلم باتفاق الفرقة على حكم كون الإمام على ذلك الحكم.81 وخلص الشيخ الصدر إلى القول بعدم جريان قاعدة اللطف في أزمنة الغيبة لأن الإمام "إنما يقوم ببيان الأحكام إذا لم يمنعه مانع، وأن المانع الذي أدى إلى استتاره طوال مئات الأعوام هو نفسه يمنعه أن يقوم بتبليغ الأحكام"،82 واعتبر رأي المتأخرين المبني على الحدس تراجعا عن القول بكشف الإجماع عن دخول الإمام بشخصه أو قوله،83 كما رأى في اعتبارهم أن الإجماع يمثل رضا الإمام "ما هو إلا كرمز تقديس عن فكرة وجوده وعطفه سلام الله عليه"،84 وبذلك صار لنفس الإجماع والاتفاق مدخل في الحجية، وبذلك قد يحصل نوع تقارب في عناوين الدرس الأصولي المتصل بالإجماع لدى الشيعة وأهل السنة، وغدا "المجمع عليه لا ريب فيه".85 أهل السنة ومدخولية الاعتبار الجماعي (المجتهدون) في حجية الإجماع اتفق أكثر أهل السنة على القول بحجية الإجماع،86 واختلفوا بعد هذا في كثير من مسائله: في إفادته الظن أو القطع، في اشتراط انقراض العصر أو عدمه، في حكم منكر الإجماع، في حكم إحداث القول الثالث، في حكم الإجماع السكوتي وحجيته، في من يدخل في الإجماع، في أنواع الإجماعات: إجماع أهل المدينة، إجماع الخلفاء الأربعة، إجماع الأئمة الأربعة، إجماع الشيخين، إجماع المصرين (مكةوالمدينة، الكوفة والبصرة)، إجماع العترة، وليس المعني من هذه المسائل إلا ما له تعلق بالخلاف المفصلي والأساسي بين الشيعة وأهل السنة: أي مسألة الحجية، وقد سبقت الكلام عليها لدى الشيعة، وهذا أوان الكلام عليها لدى أهل السنة. قال الإمام الشافعي (ت 204 ه) –رحمه الله: "الإجماع حجة"،87 واستدل بقول الله عز وجل: ﴿ومن يشاقق الرسول من بعدما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا﴾،88 وقال ابن عبد البر (ت 463 ه): "إن الإجماع يجب الانقياد إليه"،89 وقال أبو إسحاق الشيرازي (ت 476 ه): "وهو حجة من حجج الشرع ودليل من أدلة الأحكام المقطوع على مغيبه"،90 واستدل بما استدل به الإمام الشافعي، وذهب إلى القول بالحجية أيضا السرخسي 91 والجويني 92 والغزالي 93 والرازي 94 وابن تيمية 95 والشاطبي 96 والشوكاني.97 ووقف الإمام الغزالي طويلا عند أدلة حجية الإجماع من آيات وأخبار، فأما الآيات فاعتبرها " ظواهر لا تنص على الغرض بل تدل أيضا دلالة الظواهر"،98 وآية (ومن يشاقق الرسول) التي اعتبرها أقوى ما استدل به القائلون بالحجية "ليست نصا في الغرض"،99 لأنها لا تدل على المنع من الكفر والردة الثابتين في حق من يقاتل الرسول ويشاقه ويضم إلى ذلك أتباع غير سبيل المؤمنين،100 وأقوى ما استدل به من الأخبار قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تجتمع أمتي على الخطأ"،101 وهو "من حيث اللفظ أقوى وأدل على المقصود (الحجية)"،102 في نظر الغزالي، والذين أنكروا إفادة هذا الخبر للحجية ذكر لهم الغزالي ثلاثة مسالك للإنكار: الرد والتأويل والمعارضة، واقتصر على ذكر الأولين لأهميتهما: أولا: الرد: ولهم فيه أربع إيرادات:103 1-احتمال وجود واحد من المخالفين ولم ينقل خلافه. 2-الاستدلال بالخبر على الإجماع، ثم بالإجماع على صحة الخبر وهو غير صحيح. 3-احتمال ثبوت الإجماع بدليل آخر لا بهذا. 4-لم يذكر الصحابة للتابعين طريق صحة الأخبار التي علموا صحتها. ودفع الإمام الغزالي هذه الإيرادات بما يلي:104 إن العادة تحيل عدم العلم بالمخالف للإجماع وهو من عظمة المكانة ما يعلم الجميع. 1-إن الصحيح هو انه حدث الاستدلال بالخبر على الإجماع وعلى صحة الخبر لعدم وجود المخالفة لأن "العادة تقتضي إنكار إثبات أصل قاطع يحكم به على القواطع بخبر غير معلوم الصحة، فعلمنا بالعادة كون الخبر مقطوعا به لا بالإجماع".105 2-إن الاحتجاج بهذه الأخبار لا بدليل آخر على التحذير من مفارقة الجماعة أمر ظاهر. 3-إن قرائن صحة الخبر تنقدح في النفس وتعجز عنها العبارة حتى ينقلها الصحابة للتابعين، فاكتفى الصحابة "بعلم التابعين بأن الخبر المشكوك فيه لا يثبت به أصل مقطوع به، ويقع التسليم في العادة به، فكانت العادة في حق التابعين أقوى من الحكاية".106 ثانيا: التأويل: في هذا المسلك ذكر الغزالي لمنكري إفادة خبر (لا تجتمع أمتي على الخطأ) لحجية الإجماع ثلاث تأويلات:107 1-المراد من الخبر عصمة جميع الأمة عن الكفر بالتأويل والشبهة. 2-احتمال الخبر للعصمة عن كل خطأ، والعصمة عن بعض أنواع الخطأ. 3-الأمة المعصومة التي لا تجتمع على الخطأ هي كل من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة. ودفع الغزالي أيضا هذه التأويلات بثلاث أمور: 1-أن الضلال والخطأ في أصل الوضع اللغوي لا يناسب الكفر "فدل على أن ما لم يعصم عنه الآحاد من سهو وخطأ وكذب يعصم عنه الأمة".108 2-لا وجه للتفريق بين الخطأ في شيء والخطأ في شيء آخر، أو بين نوع من الخطأ ونوع آخر "إذ ما دل من العقل على تجويز الخطأ عليهم في شيء دل على تجويزه في شيء آخر،وأما العصمة عن البعض دون البعض فهذا يثبت لكل كافر فضلا عن المسلم".109 3-إن المعدومين والموتى لا يصدر منهم اختلاف ولا اجتماع "فيعلم قطعا أن المراد به إجماع يمكن خرقه ومخالفته في الدنيا وذلك هم الموجودون في كل عصر"،110 ويتمهد بما ذكر في مقام نقل الأقوال والاحتجاج أن العصمة عن الخطأ في الدين ثابتة لمجموع الأمة لا للأفراد – كما تعتقد الشيعة-. ومن باب قاعدة اللطف دخل الإمام فخر الدين الرازي (ت 606 ه) للرد على إجماع الشيعة، فهو بدءا لم ينسب إليهم القول بعدم حجية الإجماع بل نسب إليهم القول بالحجية حاكيا العلة التي يعتمدون عليها فقال: "أما الشيعة فقد استدلوا على أن الإجماع حجة بأن زمان التكليف لا يخلو عن الإمام المعصوم، ومتى كان كذلك كان الإجماع حجة"،111 وفي أثناء رده ينبه على المباني الثلاثة التي أقام عليها الشيعة حجية الإجماع:112 1-قاعدة اللطف: لابد من إمام. 2-لازمة القاعدة: لابد من أن يكون الإمام معصوما. 3-دخول قول الإمام في المجمعين. ثم تدرج في مناقشة هذه المباني واحدا واحدا على النحو التالي: 1-يسلم الإمام الرازي على سبيل التنزل والمماشاة بالمبنى الأول (لابد من إمام) لينتقل إلى الثاني. 2-فيسأل "لم قلتم إنه معصوم؟"113 فيورد جواب الشيعة: "لو لم يكن معصوما لافتقر إلى لطف آخر"،114 فيرد بملحظ دقيق فيقول: "لم لا يجوز أن يكون ذلك اللطف هو الأمة".115 3-إن التسليم بوجود قول الإمام في المجمعين لا يعني التسليم بصواب قولهم لأنه قد يصدر منه على وجه التقية والخوف، وعلى فرض صدوره عن اعتقاد فإنه لا يسلم من الخطأ، ثم تعقب هذه الردود بالمناقشة بالقول: "هذا ما على هذه الطريقة منن الاعتراضات ومن أحاط بها تمكن من القدح في جميع مذاهب الشيعة أصولا وفروعا،لأن أصولهم في الإمامة مبنية على هذه القاعدة،ومذاهبهم في فروع الشريعة مبنية على التمسك بهذا الإجماع".116 ولم يفت الشيخ الكاظمي في سياق تقريره لوجوه حجية الإجماع عند الإمامية أن يناقش الأدلة التي يستدل بها أهل السنة على حجية الإجماع، فاعترف بأن أقوى ما اعتمدوا عليه من النقل - موافقا بذلك للغزالي- حديث (لا تجتمع أمتي على الخطأ) "لاشتهاره وتعويل معظمهم عليه ولا سيما أوائلهم وتلقيهم له بالقبول لفظا ومعنى وادعاء جماعة منهم تواتره معنى"،117 ومما عزز من قوة ذلك الخبر ما ذكره الكاظمي من موافقة "العلامة الحلي 118 على ذلك في (أوائل المنتهى) وادعائه في آخر المائة الأولى من كتاب (الألفين)119 أنه متفق عليه بين الفريقين، وتعداده في القواعد من خصائص نبينا صلى الله عليه وسلم عصمة أمته بناء على ظاهرها مع التصريح بعصمتهم من الاجتماع على الضلالة"،120 وسرد طرفا من رسالة الإمام الهادي 121 إلى أهل الأهواز يستدل فيها بحديث (لا تجتمع أمتي على ضلالة) وورد الاستدلال على غير وجه الالزام للمخالفين او التقية فقال: "قد اجتمعت الأمة قاطبة لا اختلاف بينهم أن القرآن حق لا ريب فيه عند جميع أهل الفرق وفي حال اجتماعهم مقرون بتصديق الكتاب وتحقيقه مصيبون مهتدون وذلك بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تجتمع أمتي على ضلالة، فأخبر أن جميع ما اجتمعت عليه الأمة كلها حق، هذا إذا لم يخالف بعضها بعضا"،122 ومن ثم تثبت رواية الفريقين للخبر عصمة الأمة من الاجتماع على الضلالة، ولذلك ذهب الشيخ محمد مهدي شمس الدين إلى القول: "في الإسلام مشروع الدولة كله مشروع غير مقدس... وإنما المطلق والمقدس والأساس من وضع له الشرع والشريعة أي الأمة".123 المجتهد "المبتدع" والإجماع لهذا الموضوع في أصول الفقه علاقة وطيدة بمسألة رواية المبتدع في علوم الحديث ، إلا أنه يزاد هنا على دعوة المبتدع أو عدم دعوته خروجه من الملة أو عدم خروجه ،ولقد جمع الإمام الشوكاني – رحمه الله- وجوه أقوال كثير من علماء أهل السنة في مسألة دخول المجتهد المبتدع في الإجماع فقال: "هل يعتبر في الإجماع المجتهد إذا كانت بدعته تقتضي تكفيره فقيل: لا يعتبر في الإجماع، قال الزركشي بلا خلاف لعدم دخوله في مسمى الأمة المشهود لها بالعصمة وإن لم يعلم هو كفر نفسه، قال الصفي الهندي: لو ثبت لكان يمكن الاستدلال بإجماعنا على كفره بسبب ذلك الاعتقاد لأنه إنما ينعقد إجماعنا وحده على كفره، لأن قوله معتبر في الإجماع لكونه من أهل الحل والعقد، قال الهندي: وهو الصحيح، القول الثاني: لا يعتبر، قال أبو الأستاذ أبو منصور قال أهل السنة لا يعتبر في الإجماع وفاق القدرية والخوارج والرافضة، وهكذا روى أشهب عن مالك، ورواه العباس بن الوليد عن الأوزاعي، ورواه أبو سليمان الجوزجاني عن محمد بن الحسن، وحكاه أبو ثور عن أئمة الحديث، قال أبو بكر الصيرفي: ولا يخرج من أهل الإجماع من كان من أهل العلم وإن اختلفت بهم الأهواء كمن قال بالقدر ومن رأى الإرجاء وغير ذلك من اختلاف آراء أهل الكوفة والبصرة إذا كان من أهل الفقه، فإذا قيل: قال الخطابية والرافضة كذا لم يلتفت إلى هؤلاء في الفقه لأنهم ليسوا من أهله، قال ابن القطان: الإجماع عندنا إجماع أهل العلم، فأما من كان من أهل الأهواء فلا مدخل له فيه، قال أصحابنا في الخوارج: لا مدخل لهم في الإجماع والاختلاف، لأنهم ليس لهم أصل ينقلون عنه ولأنهم يكفرون سلفنا الذين أخذنا عنهم أصل الدين، وممن اختار أنه لا يعتد به من الحنفية أبو بكر الرازي، ومن الحنابلة القاضي أبو يعلى واستقرأه في قول أحمد: لا يشهد عندي رجل ليس هو عندي بعدل وكيف أجوز حكمه. القول الثالث: إنه لا ينعقد عليه الإجماع وينعقد على غيره، يعني أنه لا يجوز له مخالفة من عداه إلا ما أدى إليه اجتهاده ولا يجوز لأحد أن يقلده، القول الرابع: التفصيل بين من كان من المجتهدين المبتدعين داعية فلا يعتبر في الإجماع، وبين من لم يكن داعية فيعتبر، قال القاضي أبو بكر (الباقلاني) والأستاذ أبو إسحاق (الإسفراييني) إنه لا يعتد بخلاف من أنكر القياس، ونسبه الأستاذ إلى الجمهور وتابعهم إمام الحرمين والغزالي، قالوا لأن من أنكر القياس لا يعرف طرق الاجتهاد وإنما هو متمسك بالظواهر فهو كالعامي الذي لا معرفة له، وقال القاضي عبد الوهاب في الملخص: يعتبر كما يعتبر خلاف من ينفي المراسيل ويمنع العموم، ومن حمل الأمر على الوجوب لأن مدار الفقه على هذه الطرق".124 وعلى هذا النحو نبه الإمام الشوكاني على اختلاف علماء أهل السنة: من حيث كفر المبتدع أو عدم كفره، ومن حيث علمه بكفر نفسه أو عدم علمه، ومن حيث دعوته لبدعته أو عدم دعوته، ومع عدم الكفر يدور الكلام أيضا على المجتهد الفاسق، يقول الإمام أبو إسحاق الشيرازي (ت 476 ه): "يعتبر في الإجماع اتفاق كل من كان من أهل الاجتهاد سواء كان مدرسا مشهورا، أو خاملا مستورا، وسواء كان عدلا أمينا أو فاسقا متهتكا لأن المعول في ذلك على الاجتهاد والمهجور كالمشهور، والفاسق كالعدل في ذلك"،125 وهذا على الرأي القائل "لا يشترط عدالة المجتهد في الإجماع"،126 ومن اشترط العدالة – وهم الجمهور والحنفية- يشترطون عدم البدعة المفسقة،127 واختار الإمام السرخسي رأيا مفاده أن من كان متهما بهوى ولكنه غير معلن به فإنه يعتبر قوله في الإجماع،وكذلك من اتهم بفسق وكان غير معلن به،128 وقال الإمام الغزالي: "المبتدع إذا خالف لم ينعقد الإجماع دونه إذا لم يكفر بل هو كمجتهد فاسق، وخلاف المجتهد الفاسق معتبر"،129 ويمثل للبدعة بما لو أن صاحبها قال "بالتشبيه والتجسيم وكفرناه فلا يستدل على بطلان مذهبه بإجماع مخالفيه على بطلان التجسيم مصيرا إلى أنهم كل الأمة،لأن كونهم كل الأمة موقوف هذا على إخراج هذا من الأمة، والإخراج من الأمة موقوف على دليل التكفير فلا يجوز أن يكون دليل تكفيره ما هو موقوف على تكفيره فيؤدي إلى إثبات الشيء بنفسه".130 وإذا ضممنا إلى هذين المثالين (التشبيه والتجسيم) مثالا ثالثا وهو الإمامة فقد قال الغزالي: "واعلم أن الخطأ في الإمامة وتعينها وشروطها وما يتعلق بها لا يوجب شيء منه تكفيرا"131 اتضح وجه اعتبار دخول الشيعة في الإجماع باتفاق مجتهدي الأمة " بصرف النظر عن بلدهم أو جنسهم أو طائفتهم، فلو اتفق على الحكم الشرعي في الواقعة مجتهدو الحرمين فقط ، أو مجتهدو العراق فقط ، أو مجتهدو الحجاز أو مجتهدو آل البيت، أو مجتهدو أهل السنة دون الشيعة لا ينعقد شرعا بهذا الاتفاق الخاص إجماع، لأن الإجماع لا ينعقد إلا بالاتفاق العام بين مجتهدي العالم الإسلامي في عهد الحادثة ولا عبرة بغير المجتهدين"،132 إلا أن الدكتور عبد الوهاب خلاف لم ير إمكانا لانعقاد مثل هذا الإجماع العام إلا "إذا تولت أمره الحكومات الإسلامية على اختلافها، فكل حكومة تستطيع أن تعين الشروط التي بتوافرها يبلغ الشخص مرتبة الاجتهاد، وأن تمنح الإجازة الاجتهادية لمن توافرت فيه هذه الشروط، وبهذا تستطيع كل حكومة أن تعرف مجتهديها وآرائهم في أية واقعة"،133 لكن إسناد شؤون الإجماع إلى الحكومات فيه نظر وتفصيل: 1- في ظل حكومات علمانية تحتل فيها النيات العدوانية على الدين والمتدينين موقع الصدارة لن يعدو المجتهدون أن يكونوا أداة طيعة في يد الحكام يصدرون الفتاوي تحت الطلب لتبرير السياسات القائمة في محيط دولي أصبح يعير اهتماما متزايدا للرأي العام الإسلامي ونخبه المتمثلة في العلماء، ولن يتجاوز هامش حرية الاجتهاد مساحة الفرد في خاصة الشأن العبادي. 2- وفي ظل حكومات تتنازل للدين عن مواقع التشريع وتوجيه المجتمع يجب أن لا يعدو دور الحكومات الدور التنظيمي التقني نظرا لتمكنها من الوسائل والإمكانات المادية التي تتيح للمجتهد مزاولة عملية الاجتهاد بعيدا عن كل رقابة خدمة للناس وتحريا لمصالحهم في المعاش والمعاد. وزيادة على كل ذلك فإن مما يشكل معبرا إلى تصالح الشيعة وأهل السنة على إجماع عام وشامل وجوب اهتمام أهل السنة " بإجماع العترة"، لاسيما أنه قد وجد منهم من قال بحجيته كابن تيمية، وهذه عبارته: "قد تنازع العلماء من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم في إجماع الخلفاء وفي إجماع العترة هل هو حجة يجب اتباعها، والصحيح أن كلاهما حجة".134 وإن التصالح على معنى الإجماع يجب ألا يسقطنا في الذهول عن حكمة الله تعالى التي اقتضت اختلاف الناس في الأفهام والاستعدادات،ويحتم الاستفادة من التقدم المذهل الذي حصل في وسائل الاتصال وأساليب استطلاع الآراء وقياسها،وإن انتهاء مرحلة "النص" على الأئمة بدخول الشيعة أزمنة "الغيبة"، وجعل الدويلات القطرية السنية للأمة (بعلمائها ومجتهديها ومفكريها) رهينة في يد "السلطة" يدفع إلى ضرورة تحصيل اجتهاد جماعي يفضي إلى إجماع حول موقع العلماء والمجتهدين في الدولة الحديثة أولا، وثانيا إلى إجماع حول طرق تنزيل أحكام الدين على مستجدات الحياة المعاصرة على نحو "يكشف" عن حكم الله،وعن الواقع،وعن المصلحة ،وثالثا إلى ضبط الإجماع "الشرعي" وتمييزه عن الإجماع "السياسي" الذي يحصله "ممثلو الأمة " الحقيقيون،ويحسمه "الاستفتاء الشعبي" في "الديموقراطيات" الحقة لا المزورة. أنقر هنا لمطالعة هوامش المقالة