عبد الصمد الكباص لحظة ممتعة جمعت الجمهور الثقافي مساء الاثنين 16 نونبر بخوان غويتصولو في إطار تقديمه لسلسلة القبلة التي اقترحها معهد سرفانتس بالمدينة الحمراء بتعاون مع المدرسة العليا للفنون البصرية . هذا الحدث الذي شد إليه انتباه المهتمين بالسينما و المنشغلين بالشأن الثقافي وعدد من الكتاب و المبدعين و حشد غفير من الطلبة ، كان فرصة أخرى للاقتراب من مدى عشق صاحب " الأربعينية " للثقافة العربية الإسلامية. ماريا دولوريس لوبيز مديرة المعهد الاسباني بمراكش اعتبرت في كلمتها الافتتاحية أن اقتراح عرض هذه السلسلة بتعاون مثمر مع المدرسة العليا للفنون البصرية ، يجسد احتفاء جماليا بتنوع الثقافة العربية الإسلامية من خلال رؤية مبدع كبير تشرب عبر ترحاله في ربوعها عمقها و أصالتها . و من جهته استحضر الكاتب العالمي خوان غويتيصوللو سياق بلورة فكرة " القبلة " . فقبل أن تحصل على صيغة سينمائية كانت القبلة في بدايتها عملا صحفيا أنجزه خوان للباييس الأسبوعية ، وهو عبارة عن سلسلة روبرتاجات عن سفرياته و ترحاله عبر فضاءات متنوعة من الجغرافيا الثقافية للبلدان الإسلامية ، كالقرافة (المقبرة ) بمدينة القاهرة و مواسم الأولياء بالمغرب العربي و الدراويش بتركيا و موسيقى الراي و غيرها.. وكان إنجاز هذه السلسلة محاطا بظروف فرضتها الوضعية السياسية و الثقافية لهذه البلدان ، الشيء الذي جعل خوان غويتصوللو يقول عنها أنها لم تحقق رغبته بقدرما ماحقق فيها ما أتيح له من إمكانيات . و كانت الرقابة طبعا أهم العوامل التي اعترضته . كما حدث له بالقاهرة عندما كان ينفذ فكرة شريط حول القرافة (المقبرة ) ليضطر للتصوير من شرفة الفندق ، أو كما وقع له بالسعودية عندما منع من تصوير شريط وثائقي حول الحج بدعوى أنه لا يمكن لرجل غير المسلم أن تطأ الحرم المقدس . الرهان من خلال هذه السلسلة بالنسبة لخوان غويتصوللو هو تقديم الثقافة العربيةالإسلامية في تنوعها و اختلافها . حيث غالبا ما سوقت في أذهان الناس على أنها كيان واحد منسجم و متماثل ، في حين أنها نسيج اختلافات تاريخية يعكسها تنوع غني و تعدد مبدع ترسمه المسافة الثقافية التي توجد مابين الدراويش ورثة جلال الدين الرومي و موسيقى الراي .. فالثقافة الإسلامية ضحية سوء فهم كبير تؤكدها حكاية رواها خوان قائلا : " أخبرت صديق لي أنني قادم للتو من المغرب . فرد علي كيف حالكم بالمغرب مع طالبان ؟ " . فالكثير من الغربيين يتصورون أن العالم الإسلامي شيء واحد ، و خط متصل من المغرب إلى أفغانستان . افتتاح هذه السلسلة كان بفيلم حول الدراويش الدوّارين ، هذا التقليد الذي يعود إلى جلال الدين الرومي ، الشخصية التي اختلط فيها الواقعي بالأسطوري و تجمعت فيها ملامح عصر من التجريب الصوفي و الخبرة الروحانية . يعود خوان غويتصيللو إلى المنابع الثقافية لرقصة الدراويش التي تتم وفق طقوس خاصة لتترجم شكلأ متميزا من الاتحاد الوجداني يحمل مضمون رياضة روحانية . حيث يدور فيها الدرويش في حركة مضادة لحركة عقارب الساعة . و يسترجع تفاصيل من حياة جلال الدين الرومي و تطوره الفكري و الروحي مركزا على مفاصلها الأساسية و في مقدمتها علاقته بشمس الدين التبريزي . يخلّص خوان رقصة الدراويش من أية رؤية فلكلورية أو منظور تسييحي يعلبها في هيئة مسطحة معدة للاستهلاك السريع . فالأمر يتعلق بممارسة معقدة ذات تاريخ عريق و عمق روحاني كبير و مغامرة فكرية غير قابلة للاختزال. و بخصوص الشريط الذي أنجزه حول موسيقى الراي ، يقدم خوان غويتيصوللو ، تحليلا لمفارقات المجتمع المغاربي و تمزق الذات التي تشكلت في سياق فترة الاستعمار و ما بعده . يبدأ الشريط بمشهد للشيخة الرميتي عميدة أغنية الراي و هي تغني بصوتها القوي المعارض لمعايير الصوت الجميل في النموذج التقليدي للذوق البرجوازي . و يتواصل بتقديم برتريهات لفنانين شباب في مقدمتهم الشاب خالد . فالراي الذي كان في بدايته فنا منبوذا و مطرودا من الاعلام الرسمي ليحتل فضاء الحانات و المقاهي الشعبية و الحفلات الخاصة ، كان هو التوقيع المباشر لشهادة وفاة الأغنية المرتبطة بذوق البرجوازية الصغيرة التي جسدت فصلا صارما بين الحياة و الابداع من خلال عجزها عن استيعاب التمزق الثقافي و الاجتماعي لهذا الجيل الذي عانى من خيبات متوالية منذ الاحتلال الفرنسي للجزائر إلى حرب التحرير و الاستقلال و مابعده . مديح الخمرة و انتظار العشيق و حرقة الشهوة و محنة الهجرة ، تلك بعض التيمات التي تعامل معها الراي بشكل مباشر بدون ماكياج و لا رتوش ، و هو مافتح أمامه واجهات متعددة للمواجهة ، فالمثقفون يستهجنونه و المتطرفون يرفضونه لأنه لا يحترم الحدود الأخلاقية المرسومة من قبل الدين ، و النظام لا يعترف به لأنه فن المهمشين و المترجم لنفسية خائبة يحكمها القمع و الكبت و الحرمان . الغريب أن الراي الذي بدأ منبوذا طور نفسه ليعود بقوة و يصبح الأغنية الأكثر انتشارا ليس في الجزائر أو المغرب و إنما بأروبا و العالم . هذا النجاح حسب خوان غوتصوللو يرجع إلى قدرته على استيعاب تجربة هذا الجيل بمرارتها و خيباتبها و تطلعاتها و آمالها و هي المهمة التي لم تعد الأغنية التي تربت في أحضان الذوق البرجوازي قادرة على إنجازها. و تواصل بفضاء معهد سرفانتس أيام الخميس و الجمعة 19 و 20 نونبر 2009 عرض هذه السلسلة التي تضم ثماني حلقات مترجمة إلى العربية هي : موسيقى الراي ، الدراويش الدوارون ، غلودي بيكابادوسيا ، الإسلام الأسود ، إسطنبول ، المدينة المتجددة ، مسار بطل ، آخر الرواة و زهاد الصحراء .