إذا شئنا أن نكون صرحاء في علاقتنا ككتّاب مع الأوساط الأدبيّة والصحفيّة، أمناء في مصداقيّة أقلامنا ، فلا بدّ وأن نعترف بأنّ الإحباطات المعنويّة والماديّة التي تعتصر أرواح الأقلام الموهوبة المجتهدة هي من أسوأ تبعات اختلال موازين الأدب والكتابة في عصرنا الحاضر. كما لا بدّ لنا أن نفصح عن مدى فساد تفشّي دور (الوساطات والمحسوبيّات) المريضة في أوساط يفترض بها أن تترفّع ببلاطها المقدّس عن مثل ذاك العبث الغابن. لا سيّما مع تصاعد عدد المتطفّلين على الأدب من غير الموهوبين وفرضهم سلطانهم على ساحات الكتابة الجادّة مستعينين بنفوذ الوساطات والعلاقات الخاصّة، ليستولوا بهذا على مقاعد الموهوبين والمجتهدين حقًا في المضمار ذاته، ويساهمون بهذا في حرمان المبدع الأصيل من نيل حقوقه الماديّة لقاء عصارة فكره وأعصابه، إمّا لأنّهم يقبضون مكافآت الزوايا التي تحتلّها ثرثرة أقلامهم المكررة على صفحات الصحافة المقتدرة ماديًا، أو لأنّهم بإسرافهم في نشر تلك الثرثرة يغرقون سوق الكتابة والصّحافة بكلام رخيص يخفض من قيمة الأقلام كلّها بموهوبها وتافهها - إن لم يُعدم تلك القيمة تمامًا- ما لم تدخل إلى الوسط الصحفي أو الأدبيّ مشفوعة بوساطة يدين لها أرباب المناصب الإداريّة في تلك المؤسسات أو يخشون جانبها. رغم أنّ المواهب الجادّة التي تفتقر إلى الوساطات والشفاعات الدّسمة أكثر استحقاقًا وحاجة لاستلام حقوقها الماديّة لقاء سماحها باحتكار تلك الصحيفة أو المؤسسة لحقوق نشر كتاباتها أو رسومها أو مختلف نماذج إبداعاتها النابعة عن جهد واضح وموهبة أصيلة. قد ينتهز البعض حديثي عن الحقوق الماديّة الواجبة للكتّاب ليشهروا رفضهم في وجهي بحجّة عتيقة تقول بأنّ الكاتب الذي يحمل رسالة سامية حقًا يجدر به أن يكون عفيفًا عن طلب المال والشّهرة.. وأنا مع وافر احترامي لهذا الرّأي غير أنني أعتذر عن قبوله والإيمان به، إذ ليس من المقبول أو حتى المعقول أن يطالَب الكاتب الأصيل ذو المواهب الرّاسخة بالموت جوعًا دون غذاء، وبردًا دون كساء، ومرضًا دون دواء، في الوقت الذي يتمرّغ فيه أرباب الفكر التّافه والأقلام العقيمة المأجورة في أنهار سمن المال وعسل الشّهرة!. وليس من العدل أن نطالب صاحب المبادئ بالانزواء هامسًا بمبادئه دون إعلان في الوقت الذي تملأ فيه سخافات التافهين، ممن لا يدركون الفرق بين الألف والياء، مشارق الوطن العربيّ ومغاربه وقاية له من مضار الشهرة!!.. بل إننا نجرم في حق الأدب والأديب بتلك الحجّة الواهية في عصرنا الحديث الذي صار فيه الأدب والكتابة سلعة بين يدي سلطان الإعلام، لأننا إن ردعنا أرباب الأقلام الموهوبة المجتهدة عن إبداء وجودها بثقة، فإننا نفسح طريقًا معبّدًا للكتابات التافهة بنشر تضخّماتها السرطانيّة في المجتمع بحجّة أنّها تتمخض عن فنّ عظيم وأدب لا يشق لجودته غبار!! يقول النّاقد البحريني (فهد حسين) متحدّثًا عن إحباطات الكاتب الماديّة في كتابه (أمام القنديل) : " إنّ الكاتب في عالمنا العربيّ يعاني الكثير من الإحباطات الماديّة والمعنويّة، إذ لا يستطيع الكاتب العربي، من خلال إمكاناته المادية والماليّة، من مواصلة الطّباعة والنّشر، في الوقت الذي لا توجد مؤسسات أهليّة أو حكوميّة تحتضن الكتّاب وتتبنّى مشروعاتهم إلا ما ندر وبالشّكل العسير أيضًا. كما أنّ الصّحافة العربيّة لم تعر الكاتب ذلك الاهتمام إلا من خلال المعارف والعلاقات الاجتماعيّة والصّداقات، لذلك ترى معظم الصّحف تبحث عن الكاتب طالبة منه الكتابة معها، وتتهرّب منه حينما يأتي وقت دفع المستحقّات الماليّة، علمًا بأنّ كتّابنا في عالمنا العربيّ قلّمًا تجد واحدًا منهم يملك الثروة والمال الوفير الذي يساعد على ظروف الحياة والنّتاج" .. ثمّ يقول الكاتب في مكان آخر من الكتاب ذاته: " على الرّغم من تفرّغ بعض الكتّاب في عالمنا العربيّ، سواء أ كان برغبة الابتعاد عن الوظيفة الرّوتينيّة أم من قبل المؤسسات الرّسميّة بعد إلحاح متواصل من قبل الكاتب نفسه، فإنّ إحباطات الكاتب العربيّ ماديًا ومعنويًا تظلّ عالقة في أذهان الكتّاب والمثقّفين طالما لا توجد حلول جذريّة لهم" (1) أمّا الكاتب السّاخر (محمود السعدني) فيتحدّث في الجزء الأوّل من مذكّراته الشهيرة بأسلوبه اللاذع عن دور بعض الوصوليين من أرباب الأقلام الغير موهوبة في الصحافة ومواطن الكتابة خلال فترة منتصف القرن العشرين قائلا: " ولكن أعجب وأغرب الشخصيات في جريدة (........) لم تكن من بين المحررين. ولكنها شخصيات كانت تلعب دورًا رئيسيًا من وراء ستار وتتحكّم في الجريدة وتحريرها وسياستها.. وتوجهها إلى حيث تريد.. أوّل هذه الشخصيات كان يدعى إلياس.. وكان مسؤول الحسابات والماليّة في الجريدة.. وكان يمتّ بصلة قرابة لصاحب الامتياز. وسلطاته كانت مطلقة، ورغباته كانت أوامر، وعقليّته كانت أتفه من عقليّة حمار. والرّجل الآخر كان اسمه مسعود، وكانت وظيفته الرّسميّة سائق سيّارة صاحب الجريدة، ومن خلال هذه العلاقة التي تربطه بصاحب رأس المال، استطاع أن يفرض نفسه على جميع المحررين وأن يسهر معهم، ووعد بعضهم بعلاوات، وهدد البعض الآخر بالفصل. ونجح في لعبته فكان يتلقى الهدايا، وينشر صورته في باب المجتمع ويحرر في باب بريد القرّاء!" .. ثمّ يكمل حديثه في مكان آخر من المذكّرات عن أحد المنتمين إلى الفئة ذاتها - واسمه (عبد العاطي)- بقوله: " ولكن كيف دخل عبد العاطي.. لا أحد يدري.. كانت مهمّة عبد العاطي تلقي المكالمات التلفونية من مراسلي الجريدة" ولكنّ عبد العاطي كان طموحا إلى أقصى حد. ولكن طموحه الشديد للغاية لم يكن يصل أبدًا إلى الحد الذي وصل إليه بالفعل. فقد راح يهمس باسم أحد ضبّاط المخابرات على أنّه صديقه الأوحد.. وأحيانًا كان يطلبه بالتليفون، وأحيانًا أخرى كان يرسل بعض التقارير إليه على مرأى ومسمع من الآخرين.. وكان عبد العاطي حتّى هذه اللحظة محتقرًا من الجميع.. فلمّا شاعت قصّته وذاعت، وعرف الجميع نبأ العلاقة التي بين عبد العاطي و ضابط المخابرات العامّة، ابتسمت له الوجوه التي كانت دائمًا عابسة، وضحكت الأفواه التي كانت دائمًا مطبقة، وامتدت إليه الأيدي التي كانت دائمًا منكمشة وممسكة.." .. "واستشرى عبد العاطي كالسّرطان في أنحاء الدّار، يدفع المحرر- أيّ محرر- بكتفه أو يلزقه من باب الهزار، ويتلطّع عند أبواب المكاتب ويسترق السمع كلّما وجد أكثر من ثلاثة في اجتماع" .. " واختفى عبد العاطي سنوات طويلة، ثمّ التقيت به مصادفة.. ويا له من لقاء! اكتشفت أنّ مكتبي قد انفصلت أحد قوائمه فأرسلت في طلب نجّار، وعندما جاء النجّار اكتشفت أنّه عبد العاطي نفسه! كان يرتدي بنطلونًا وقميصًا وقد أرسل ذقنه، ودبّ الشيب في رأسه وقفز عمره عشرات الأعوام دفعة واحدة!.. وجلس يحكي لي في مرارة عن كفاحه وصراعه في الحياة، ولكنّه لم يكن قد فقد الأمل نهائيًا في العودة إلى الصّحافة.. (سأعود إليها بعد أن تنصلح الأحوال!) . ولم أفهم أي أحوال كان يقصدها عبد العاطي. وقبل أن ينصرف دعاني إلى زيارته في الدّكّان. واكتشفت عند الزّيارة أنّه لا يزال يعيش في الماضي.. مقالاته معلّقة على الجدران وصورته على غلاف المجلّة تتصدّر المحل وتحتها عبارة (الصّبر مفتاح الفرج) . وقدّمني لزملائه في محل النجارة.. (لفندي كان زميلي في الصّحافة، عشان تصدّقوا ياولاد الهرمة!) وصاح عامل كان منهمكًا في نشر لوح خشب: والنّبي تتلقح وتسكت.. وقال عامل آخر: ما تريحنا يا أخي وتروح الصّحافة بتاعتك. وهزّ عبد العاطي رأسه وقال في وقار: بإذن الله بس لمّا تزول الأسباب! وعندما سأله عامل عجوز : والسبب إيه إن شاء الله ؟.. ردّ عبد العاطي على الفور: خلاف سياسي من غير مؤاخذة! تصوّروا!.. هذا الحمار الذي لا يعرف الفرق بين الخيارة والحمارة! ثمّ غاب عبد العاطي بعد ذلك فلم أره إلا منذ عام، كنت أجلس ذات ليلة على رصيف الدّمياطي في الجيزة وكانت ليلة حارّة ورطبة تكاد تكتم الأنفاس. ومدّ رجل شديد القذارة لحوح بدرجة مزعجة يده، فمددت يدي أنا الآخر ووضعت في يده شيئًا لله ! ولكنّ اليد ظلّت ممدودة والشخص القذر ظلّ مكانه لا يتحرّك على الإطلاق، و عندما نظرت في وجهه اكتشفت أنّه عبد العاطي! وأنّ يده ليست ممدودة من أجل قرش ولكنّ يده ممدودة من أجل السلام.. وصافحت عبد العاطي وجلست معه حتّى الصّباح. لقد فشل في كلّ المهن، الفول والنّجارة وحتّى فشل كطبّاخ!.. ذهنه لا يجيد العمل.. فلم يعد أمامه إلا عرق الجبين والسواعد والأقدام. ولقد تدحرج عبد العاطي في النهاية ليستقرّ في سفح الحياة كشيّال في محطّة التروللي باس!.. أيّة مأساة عنيفة هي حياة عبد العاطي. فلقد خلق عبد العاطي فعلا لمهنة شيّال، فإذا به – بسبب بعض الأوضاع المقلوبة – يتحوّل إلى صحافيّ شهير ولكن لعدّة أعوام. لقد كان من الطّبيعي أن يكون عبد العاطي شيّالا، وكان من المنطقي أن يظل شيالا من الميلاد حتى الممات.. فهذه هي كلّ مواهبه في الحياة، ولكنّه انقلب صحفيًا شهيرًا بعض الوقت.. وهذه هي المأساة!." .. (2) إلى هنا ينتهي حديث الأستاذ (محمود السعدني) لأعود أنا بقولي: الفنّ والأدب موهبة أوّلا وثانيًا.. واجتهاد ومثابرة ثالثًا ورابعًا وعاشرًا. ومن الظّلم كلّ الظلم لأرباب المواهب والاجتهاد أن نقدّم عليهم من لا يغطي كسلهم وانعدام موهبتهم سوى تعلّقهم بأذيال معرفة (زيد) أو علاقتهم ب(عمرو) ليس أكثر. فهذا البلاط الثقافيّ الجليل أيّها السّادة لم يعد يحتمل مزيدًا من التدنيس والتفاهة. *مصادر النّصوص المقتبسة: (1) فهد حسين: أمام القنديل.. حوارات في الكتابة الرّوائيّة، طبعة أولى، كتاب البحرين الثّقافيّة/ المؤسسة العربيّة للدراسات والنّشر2008م (2) محمود السّعدني: مذكّرات الولد الشّقي.