إذا كان من شعور يساور المرء وهو يغادر محطة القطار أكدال ومحطة القطار بالرباطالمدينة، فهو الشعور بالخوف. والسبب هو أن مجلس المدينة ورئيسه عمر البحراوي يوفران شرطا أساسيا لنشاط المجرمين وقطاع الطرق، وهو الظلام. فعندما تغادر محطة الرباط أكدال يجب أن تجتاز عشرات الأمتار وسط ظلام دامس، فالشخص الذي يستغل موقف السيارات المواجه للمحطة لا يكلف نفسه عناء إشعال أضواء المكان حتى يوفر على ميزانية أرباحه ثمن الكهرباء. مع أن دفتر التحملات الذي وقعه مع مجلس المدينة يجبره على توفير الإضاءة الكافية للمكان. لكن بما أن مجلس المدينة لديه اهتمام بالخلافات المشتعلة بين أعضائه أكثر من الأضواء المنطفئة في مواقف السيارات التي يفوتها للخواص، فما على المواطنين الذين تعرض الكثيرون منهم للسرقة والاعتداء في ذلك المكان، سوى أن يتعايشوا مع الظلام. وعندما تنزل في محطة الرباطالمدينة التي توجد في قلب العاصمة، وتجيل بصرك حولها، يكاد يخيل إليك أن عصر الكهرباء لم يصل بعد إلى تلك المنطقة. على الرغم من وجود بابها بمقابلة باب مجلس المستشارين بالبرلمان. وقد يقول قائل أنه مادامت الكهرباء تقطع على الملك بنفسه عندما يأتي إلى افتتاح البرلمان، فماذا تنتظر أن يحدث حول البرلمان عندما يغادر الملك. وفي أغلب مدن المغرب، وفي الرباط تحديدا، يعرف الجميع متى تبدأ أوراش ربيع الخليع، مدير المنتب الوطني للسكك الحديدية، لكن لا أحد، بما في ذلك الخليع نفسه، يعرف متى ستنتهي. وفي محطة الرباطالمدينة، أهم محطة في المغرب وأقدمها على الإطلاق، أصبح قدر زوار الرباط وسياحها وموظفيها أن يتعايشوا مع تلك السلالم الفولاذية المؤقتة التي وضعتها إدارة السكك الحديدية بانتظار فتح المحطة من جديد. لكن يبدو أن المؤقت عند مكتب السكك الحديدية يصبح دائما. ونحن عندما نركز على وسط العاصمة وما يسود أزقتها وشوارعها من ظلام، نعول على ذكاء القارئ لكي يتخيل حال الأحياء الشعبية والمناطق النائية التي تدخل ضمن المدار الحضري للعاصمة. هناك حيث يخضع المواطنون لقانون حظر التجول مع هبوط الظلام. لأنه مع بداية الليل في تلك المناطق «المحررة» يخرج قوم آخرون يشبهون رجال الساموراي، بسبب سيوفهم الطويلة التي يقطعون بها الطرق على عباد الله. الذي يتجول في عواصم العالم التاريخية يعود مقتنعا بأن المغرب يستحق عاصمة أحسن من هذه بكثير. لأنه من المخجل فعلا أن نكتشف أن المغرب الذي يمتد تاريخه إلى مئات القرون لازالت عاصمته مضاءة بشكل سيئ وبناياته التاريخية التي توجد في قلبه تعلوها القذارة، وأرصفته التي بدأ قبل سنوات ورش تغييرها لم ينته بعد، مع أن جزاءا من الرخام الذي تم وضعه لتزيين هوامش الحدائق بدأ يتكسر ويتفتت. حتى النافورات البشعة التي تم وضعها في قلب المدينة أصبح رخامها يميل إلى السواد بسبب الطحالب الخضراء التي تنمو على جوانبه بفعل الإهمال. لعل مقياس تحضر أي شعب من الشعوب يظهر في مدى اهتمام مسيري شؤونه بحقوق المواطنين ذوي الاحتياجات الخاصة. في مدريد وغيرها من العواصم يفكر مسيرو مجالس المدينة في الصم والعميان والمعوقين، ويزودون إشارات المرور بإشارات صوتية تخبرهم باشتعال الضوء الأحمر أو الأخضر. وبما أن الراجلين لديهم الأسبقية فهناك أعمدة ضوء مجهزة بأزرار يمكن أن يضغط عليها الراجلون لكي تتوقف حركة المرور ويقطعوا الطريق بأمان. في قلب الرباط عوض أن يعزز المجلس أماكن عبور الراجلين بعلامات مرور إضافية قام بانتزاع بعضها من مكانها، وترك الأعمدة قرعاء واقفة بدون أضواء. أما بالنسبة للطوارات وإسفلت الطرق فلا يتم صبغها بشارع محمد الخامس سوى عندما يريد الملك افتتاح البرلمان. والعاصمة الكئيبة التي تكاد تسيل بها دماء المحتجين يوميا تريد اليوم عبر مهرجان «موازين» الذي يديره السكرتير الخاص للملك، منير الماجدي، أن تجري عملية تجميلية لإخفاء تجاعيدها القديمة. حتى تستطيع الابتسام في وجه ضيوفها بعد إدمانها لتكشير الأنياب كل هذا الوقت. لذلك تم استدعاء عشرات الفرق الموسيقية من كل دول العالم لكي يرقصوا وينشطوا ليل العاصمة. شيء جميل أن يكون للرباط مهرجان ينشط دورتها الدموية المخثرة. والأجمل منه هو أن تكون للرباط ملامح العاصمة كما هي متعارف عليها عالميا. إنه لمن المخجل أن تصرف مؤسسات الدولة والشركات العملاقة التي تدور في فلكها ملايين الدراهم لتغطية مصاريف تنقل وإقامة وتعويضات نجوم وفنانين عالميين، في الوقت الذي لازالت فيه شوارع الرباط تنظف بجريد النخل كما كان يحدث في القرون الوسطى. وفي الوقت الذي لازالت فيه أزقتها وساحاتها تفتقر حتى إلى عمود كهرباء ينير الطريق للعابرين. الرباط عاصمة كئيبة ومهملة، وما يثير الحنق هو أن مقوماتها التاريخية ومآثرها لو توفر لمدينة أوربية ربعها لكانت صنعت بها الأعاجيب. سور المدينة التاريخي الجميل يغرق في الظلام، وحيطانه عرضة لمثانات السكارى والمشردين. وعقلية الرخام الهجين تسيطر على كل أوراش الإصلاح، مدمرة تلك اللمسة الحانية التي خلفها التاريخ فوق الأمكنة التي مر منها. وحتى المشاريع الثقافية الكبرى التي بدأت قبل عشر سنوات لم ترتفع منها سوى بعض الأساسات، فأين هي المكتبة الوطنية والمتحف الوطني ومعهد الرقص والفنون الكوريغرافية التي أتى الأشعري وزير الثقافة السابق بأغلب أفراد العائلة الملكية لتدشينها أكثر من مرة. الاحتفال الحقيقي بالعاصمة هو بناء المتاحف ودور الثقافة وصالات العرض والمكتبات في الأحياء السكينة لتقريب العلم والثقافة من المواطنين، عوض الاكتفاء بتقريب «الروج» منهم بافتتاح الأسواق الممتازة التي تبيعه وسط أحيائهم. إنهم يريدون أن يحولوا الرباط خلال أسبوع إلى عاصمة تملأ أرجاءها السعادة والهناء، فالرقص والغناء والسهر متاح في كل أنحاء العاصمة. لكن هل كل هذا الغناء والشدو يمكنه أن يخفي شراسة القمع وهمجية رجاله في تكسير عظام وأسنان وجماجم كل من يتجرأ على الاحتجاج في قلب العاصمة. هل هي صدفة أن يكون رجال العنيكري بصدد تكسير أطراف مواطنين أرادوا أن يقفوا متضامنين مع ضحايا حرية التعبير أمام وزارة العدل الخميس الماضي، في الوقت ذاته الذي كان فيه السكرتير الخاص للملك ورئيس مؤسسة مهرجان موازين جالسا يخطب في فيلا الفنون بالرباط حول الموسيقى والرياضة. في عواصم العالم المتحضر الحق في الغناء والرقص لا يلغي الحق في الاحتجاج والتظاهر. ثم إن مثل هذه المهرجانات التي توزع فيها التعويضات بسخاء على نجوم الغناء والطرب، تحدث عادة في البلدان التي تحقق لمواطنيها حدا أدنى من الرخاء الاجتماعي. عندنا في المغرب اليوم أزمة حكومية خانقة، هناك حديث متواتر عن إمكانية تعديل الحكومة، النقابات تجدد تأكيدها على خوض الإضراب العام الأسبوع المقبل، والسلم الاجتماعي في كف عفريت. وسط الرباط تحول إلى مجزرة يومية يتم فيها سلخ كل من يأتي ليحتج على وضعيته. مقرات وزارية ومقرات حزبية ومسرح محمد الخامس أصبحت ملاجئ يقتحمها المعطلون هربا من بطش رجال الأمن والقوات المساعدة. وفوق كل ذلك هناك من لديه الوقت لكي يخصص أسبوعا كاملا للرقص والغناء. وكأننا وجدنا الحل لكل هذه الأزمات الخانقة التي يتفق الجميع على أن استصغارها والتعامل معها باستسهال ليس في صالح أحد. لدى المغاربة حكمة عميقة تقول «الكرش إلى شبعات كاتكول للراس غني». ومع كل هذه الأسعار المجنونة والرواتب المتدنية لا يظهر فعلا أن كروش المغاربة شبعانة إلى درجة رمي أموالهم من النوافذ. اللهم إذا كانت كروش بعضهم هي التي شبعت وأوحت إلى «رؤوسهم» بأن تغني.