بعد ملف «الخبز» نطرح اليوم في الملف الثقافي ملف «المنزل الأول»، والحقيقة أنه لو تتاح الإمكانيات والوقت لأنجزنا رفقة الأصدقاء الكتاب عملا كبيرا، يساعد في قراءة النصوص الإبداعية شعرا ورواية وقصة ومسرحا ونقدا وخطابا فكريا لمعشر الكتاب المغاربة، لكن «لعنة» العمل الصحافي تجعل الواحد يقنع بالقليل على أمل العودة مرة ثانية، تلك العودة الموعودة التي قد لا تحقق بسبب تشعب العمل الصحافي، خاصة في الإعلام الثقافي المكتوب الذي يحتاج في الحالة المغربية إلى «نظرة» أخرى، وإلى الرفع من شأنه في وجه سيادة تسطيح أو تعالم مبالغ فيهما. لقد راعني مثلا وأنا أبحث في معنى «la maison natale» أو في معنى بيت أو منزل مسقط الرأس في الثقافة الأوربية، هذا الاهتمام الكبير ببيوت مسقط الرأس لكتاب ومشاهير وعلماء وفلاسفة وشعراء وسياسيين وغيرهم، في احتفاء شديد بالمكان واحتفال بالمكان الأول، فالمكان مهما كان هو جزء من الكيان الروحي للمبدع. بالإمكان اليوم التعرف على البيت الصغير الذي ولد فيه سيغموند فرويد، المحلل النفساني الذي سيحدث ثورة في علم النفس، وبالإمكان التعرف على بيت مسقط الرأس لسياسي وسم التاريخ الفرنسي الحديث مثل الجنرال ديغول أو على البيوت الأولى لهيغو أو رامبو أو غيرهم، لكن من يعرف مسقط رأس شاعر مغربي مثل عبد الله راجع، أو أين يقع البيت الأول لعبد الله العروي في أزمور، أو أين ولد سياسي عريق مثل عبد الله ابراهيم، أو في أي زقاق عاش محمد برادة وداخل أي فضاء طفولي أينعت ذاكرة مبارك ربيع. البيت مثل الحب الأول، من الوشم في ذاكرة الروح والجسد، وحين نتعالى أو نهرب من هذا التاريخ الشخصي نكون قد دمرنا جزءا من حقيقتنا المادية والروحية. الكثير من الكتاب المغاربة تمدنوا، أصبحوا أبناء «كازا» أو رباطيين أو غير ذلك، ويخجل الكثيرون من ذكر أصولهم البدوية.. من يقول لك اليوم إنه ولد في «نوالة» أو إنه عاش في أسرة فقيرة في بيوت الكراء حتى سن البلوغ، أو إنه انتقل من دوار إلى دوار ومن قبيلة إلى قبيلة أخرى. من يقول لك اليوم إنه لم يكن يعرف معنى البيت، وأنهى عاش تلك الطفولة في مهب الريح، بين «بيوت» الشعر، متنقلا مع العائلة الكريمة حيث منابع الماء والكلأ. هذا تاريخ ليس بعيدا، فمغرب الاستقلال على مرمى حجر، وواقع المغاربة يكاد يتشابه إلا من بعض الخصوصيات. لننظر هنا إلى تلك اللوعة التي انبثقت من ذاكرة القاص المغربي سعيد بواكرامي وهو يتمزق ألما على بيتهم الأول المهدم في المدينة القديمة في أبي الجعد. نفس الإحساس ساورني وأنا أزور بيتنا العائلي في ناحية أولاد افرج، حيث هجرت العائلة البيت لتستقر في «الفيلاج».. البيت الذي كان ضاجا بالحياة، مزهرا تتداعى غرفه، ويهوي حمامه، ويفرغ «مراحه»، وأما الثيران والبقرات التي يسمع خوارها في» الكوري» في ليالي الشتاء الجميل فلم تعد إلا ذكرى في الزمن أو خلسة المختلس. أكبر خساراتي فقدان جدي وجدتي، والشجرة العظيمة التي غرستها بيدي، والتي أتيت في الأصياف القائظة تحت ظلها الرحيم على الأعمال الكاملة لفيودور ديستويفكي في طبعة دار التقدم الموسوكوفية وأعمال عبد الرحمان منيف وأعمال جبرا، ورأس المال ومعالم في الطريق لسيد قطب، وما لا يحصى من الأحلام: وكيس الملاكمة المليء بالرمل والمعلق في أحد أذرع شجرة الأوكالبتوس القوية، في زمن الرياضة البدنية والاستعداد للأيام السود. وحين أعود إلى هناك، أكون مثل الأب يعود إلى مكانه الأم. على الأقل أكون حافيا، وتلك خطوة أولى...