المنزل الأول مثل الحب، لقد تنبه الشاعر الجاهلي إلى الأمر منذ أن وقف على الطلل المحيل وعلى بقايا المنازل والأحبة، ولم يكن عبثا أن تصول المقدمة وتجول في مطالع القصائد العصماء، ومع الوقت، صارت هذه المقدمات غزلية أو خمرية، لكنها لم تنج أبدا من قوة سلطة التذكر. امرؤ القيس الملك الظليل وقف بالدمع على المنزل الأول، وبكى مثل طفل، هو البوهيمي الطليق في الحياة وملذاتها، وطلب من صاحبيه أن يتريثا قليلا، لما قال لهما «قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل» . ورجل شديد البأس قوي الشعر مثل النابغة الذبياني قال في استسلام بالغ: يا دارَ ميَّةَ بالعَلياءِ فالسَّندِ /أقوَت وطالَ عليها سالِفُ الأبَدِ /وقفتُ بها أصَيلاً كي أُسائلَها /عيَّت جَواباً وما بالرَّبع من أحد». إلى أن جاء الشاعر أبو تمام وقال بيته الذي تلاعب به الشعراء إعجابا ومعارضة وسطوا على المعنى أو حبا في رشاقة البيت والقصيدة معا، يقول البيت الشعري: «كم من منزل يألفه الفتى/ وحنينه أبدا لأول منزل». المنازل الأولى والمدن الأولى تسكن كل ابن آدم، ميزة الكاتب والمبدع أن المكان الأول يعود إليه، و«يشتغل» عليه من نص إلى نص ومن مسافة في التجربة إلى مسافة أخرى. هناك أمكنة موجودة وأخرى كانت لكن لم يعد لها وجود في لاوعي الكاتب، وهناك أيضا أمكنة متوسمة في أمكنة أخرى. أمكنة منسوخة مثل لوحة مزيفة، أمكنة مستعادة، وأمكنة ترقد في قعر الأحاسيس أو في اللاوعي الجمعي، مثل الأمكنة التي هدها الزلزال أو الكارثة الطبيعية أو التي دمرها البشر بسبب الحروب. هل العودة الواقعية إلى المكان الأول هي عودة إلى نفس المكان أم إننا لا نسبح في النهر مرتين؟ ثم كيف يمكن اليوم أن يبقى هذا المكان هو هو في ظل بنية هشة لمجتمع مدني أو مجتمع مديني لا يحتفل بالمكان ولا بالمجال ويدمر إرثه الفردي والجمعي يوميا، بل لا يلقي له بالا في أحسن الأحوال. يخرج الكاتب المغربي من بيته الأول في الحي أو في الدرب أو في الدوار أو في المدشر أو في المدينة الكبيرة، قبل أن تسيح به مدن وجغرافيات في الجهات الأربع للكون، وحين يلتفت إلى الوراء يجد أن الزمن قد طوى كل شيء طي الكتاب. هنا في هذا الملف، وبعيدا عن كل فذلكة، يكتب مبدعون مغاربة عن معنى العودة إلى مسقط الرأس وإلى المنزل الأول، عودة قد لا تسر كثيرا وقد تسبب أفق انتظار خائب، فالزمن يترك أثره على كل شيء ولا يرحم أعشاش الطفولة. صدوق نورالدين: من يذكر أزمور أجدني كلما أوليت الوجهة مقصد الرأس، علي أتفقدني، أفقد ذاتي..و هنا لا أجد من وسيلة للاستعادة إلا النسيان. فبالنسيان أسترجع مدينة أزمور التي كنت أعرفها..إنها في تصوري اليوم مدينتان..المدينة التي ولدت فيها وخبرت دقائق وتفاصيل عنها، مما قد تجده في رباعية الروائي عبد الله العروي.. والمدينة التي لا أعرفها اليوم، حيث التصقت المقاهي بالمقاهي لينتشر على أرصفتها أناس يتفرسون ويتابعون، وكأن لا عمل لهم أو كأنهم يوهمون أنفسهم بالعمل.. كلما رسمت الخطو باتجاه البيت حيث ولدت أواسط الخمسينيات، أجد البيت كما كان، فقط أطلت منه نافذتان للتهوية..هذه المحافظة تعود إلى السيدة فاطمة أمي رحمها الله تعالى..لكن خارج البيت، وعلى امتداد الحي، أصبحت أحن إلى ثقافة الصمت والهدوء..فالحركة ضاجة والأطفال يلعبون الكرة إلى سقوط أول خيط ظلام، والباعة يترددون على الحي كل صباح بشكل متواتر، وأصحاب السيارات الكبرى والصغرى، يركنونها على لسان الرصيف ربحا لدرهم أو درهمين كل مساء. وأما صيفا، فيغزو الحي معجم السكارى ممن «ضربهم حمار الليل « بلغة الروائي الراحل محمد زفزاف، وهو معجم ينتهي غالبا إلى معارك وشجارات بلا حدود.. كم كانت لهذا الحي قداسته.. حي مسيو ديكري المسلوخ كدجاجة بيضاء..الساكنة على رؤوس الأصابع.. والظهيرة صمت إلى حين حركة العصر، وهذه النظافة تكاد تغادر الوجوه. اليوم يقتطف الموت الوجوه تباعا.. وتحتل «البدونة «، كما عبر عنها القاص إدريس الخوري، الأماكن على امتداد المدينة : عبث، فوضى، توحش، استطالة، تجارة بلا رقيب، صراعات فارغة حول أوهام، بذاءة، عشوائية إلخ. قيل في وقت سابق : من مدينة أزمور إلى قرية فاس.. وأما اليوم فلا أحد يعرف مدينة أزمور، حتى وأنت تركب القطار فإن الصوت النسائي لا يكاد يذكرها.. إنما للتاريخ صفحات، لكنها لا تمحى. محمد معتصم: البيضاء تجعلني أتحفز للمرابع سحرها الذي تستمده من الفاصل الزمني والنفسي والجسدي بين مكان الإقامة وأمكنة الترحال والتجوال. ومهما استقر الإنسان بمقام وطاب به عيشه إلا ويفاجأ بوخز يأتيه من حيث لا يدري يستحثه على العودة. لست وحدي من طوحت به آلام العودة، وشدته حبال الحنين، إلى مسقط الرأس ومرابع الصبا والشباب. لأن في الأدب العربي، قديمه وحديثه، وفي الأدب الغربي نماذج من هذا الحنين الموجع قرأتها. وأنا أكتب عن فكرة العودة إلى مسقط الرأس تنتابني قشعريرة، لأن مجرد التفكير في مدينة شهدت مولدي وملأت صدري بالحب والكبرياء والهواء تجعل مقامي في مدينتي الجديدة (سلا) مضنيا. لقد تشكل، وهذا ما أقوله لنفسي، كياني على هيئة المدينة الإسمنتية، المدينة الغول كما يلذ للكثيرين نعتها، وأعني مدينة (الدار البيضاء). المدينة الحديثة للمغرب الحديث والمعاصر. وقبل كل ذلك مدينة الحركة العمالية، والحركة الوطنية، ومدينة التناقض والتعقيد، والاختلاط النوعي والجنسي واللغوي والثقافي والعرقي. فلا أتصورني إلا على هذا النحو من التركيب والتعقيد. قبل استقراري بمدينة سلا بحوالي ثماني سنوات خلت، كنت لا أطيق البقاء بالمدينة المسورة العتيقة، ولا السير إلا مختنقا في مساربها الضيقة والرطبة. وهو ما اضطرني الإقامة في القطار لأكثر من خمس سنوات متتالية متنقلا بين الدار البيضاء التي تنفتح لهوائها عروق رئتي وترتعد في جسدي كل فرائصه لمطلعها، وبين مدينة سلا العتيقة العالمة التي أخذ يستميلني إليها حظ ابني من هوائها ولغتها وعادات أهلها. ذلك ما جعلني ورجاء نرجئ قليلا فكرة العودة نهائيا إلى مدينتنا، التي تمنحنا السكينة، إلى أن يشتد عود الطفلين فيقرران وجهتهما. أما وجهتنا التي نتعايش مع ألمها فقد حددتها التربة والهواء الرابضان في الدماء. سعيد بوكرامي: دارنا تهدمت في أبي الجعد أحسست باليتم الثاني وأنا أرى القبة التي ولدت فيها في القصيرة بمدينة أبي الجعد منهارة ومدخل الدار مبقور كما جراب الذكريات الضائعة يوما بعد يوم. لم يكن إحساسي بالعراء في خلاء مفتوح على صحراء جديدة من الفقد وليد تلك اللحظة، بل إنه كان يتسرب إلي منذ سنوات وأنا أبحث عن سلالتي ولا أجدها، أبحث عن حدائقي في الدارالبيضاء التي كانت أزهارها وأشجارها وعصافيرها النادرة تملأ الوجدان طمأنينة، عن مدرستي الأولى ابن حزم بنين التي تحولت إلى خراب أيضا، عن البراري والحقول الرائعة بروائحها المطلة على البحر مباشرة دون حواجز فيلات أو فنادق. كل تلك الأمكنة الحميمية التي أدفأت قلبي بالحب والجمال والخيال ضاعت في زمننا المتقهقر لحظة بلحظة بحمى امتلاك الأرض والسماء. ماذا تبقى من المكان الأول: لا شيء في الحقيقة. وما أكتبه وسأكتبه لن يكون إلا بحثا عن هذه الأمكنة الضائعة بأسسها العميقة وحيطانها المجنحة وسطوحها المطلة على طفل كان يدعى سعيد بوكرامي يقارع الأطفال حجة بحجة ويعتقد أن الزمن جامد وأبدي في حضن أم رحيمة أو جدة تخزن أسرار العالم في علِّية.