إلى أحمد السنوسي وسعيد المغربي لم تحتفظ الذاكرة بحوادث وتنسى أخرى.. لم تسجل ذكريات وتمسح أخرى.. لم توشم وجوها وأسماء وتطرد من سجلها أخرى.. هناك أشخاص ندين لهم بالكثير، قد نصادفهم يوما لنعترف لهم بالجميل، وقد يرحلون دون أن يمنحنا القدر فرصة مصافحتهم ولو بصمت.. أشخاص منحونا الكثير من الحب والثقة والسعادة والأحلام، واقتسموا معنا لحظات لا تعوض من الفرح والألم والانفعالات الصادقة.. وقد يغيرون مسار حياتنا إلى الأبد.. كنت على موعد مع أحد الأصدقاء قبل سنتين حينما حضر رفقة أحمد السنوسي «بزيز».. نظرت إليه بفرحة مكتومة، وعينين باسمتين، صحت ذاكرتي فجأة، وبدأ شريط طفولتي في الدوران أمام عيني.. سرح خيالي بعيدا، تذكرت كم استمتعنا بأشرطة بزيز في البيت، حتى أصبحنا نحفظها عن ظهر قلب.. شريط عرس الديب بجزأيه كان متعتنا المشتركة حتى أصبح أحمد السنوسي فردا من العائلة.. نتابع أخباره، ونندد بالتضييق الممارس عليه وعلى فنه.. كنت أنظر إليه، يتحدث بحماسة ومرح.. حمدت الله أن الموهبة لا تباع ولا تشترى ولا تورث ولا تذبل أبدا.. وقبل أسابيع اتصلت بسعيد المغربي كي يمدني بتسجيلات لحفلات حية يحتاجها أسعد طه لبرنامج الأغنية السياسية الذي ينتجه والذي خصص إحدى حلقاته لهذا الفنان المناضل.. لم أكن أعرف ملامحه، لكنني حينما ركبت رقمه كنت أعرف ملامح صوته، نبراته.. أتذكر شرائطه المخبأة بإحكام.. نغمة العود الذي يرتجف بين يديه.. كنت طفلة لا تفهم معاني كل أغانيه، لكنني أدركت حسيا أنه فن مختلف، وأغنية مغربية رائعة.. لم يستوعب عقلي الصغير لم لا نسمعها عبر المذياع، ولم لا يحضر سعيد المغربي يوما في سهرة السبت الأسبوعية سهرة الأقاليم كي أتعرف على ملامح وجهه.. مرت سنين طويلة، وجدت نفسي على موعد مع صوت أعرفه.. أغان لا زالت تداعب ذاكرتي وقصائد عشقت منها.. وأتوحد فيك يا وطني.. شبابا شبابا أتوحد فيك يا وطني ترابا ترابا وصلت، وجدته في انتظاري.. رجل وسيم في الخمسين، بلباس أنيق وابتسامة خجولة، صافحته بارتباك هدأ حينما أخبرني بتواضع الكبار أنه يقرأ كتاباتي ويتابع أعمالي.. تساءلت بصمت وأسى.. لم يتنحى الفنانون الحقيقيون ويتركونا ضحية المدعين والمغرورين.. من له الحق أن يحرمنا إبداعات أحمد السنوسي وحنجرة سعيد المغربي.. وأمثالهم.. هل قدرنا الأدب الرديء.. والأصوات النشاز والأفلام القدرة.. إحساس قاس تملكني في حضرة هذين المبدعين.. حاولت أن أخفيه وأن أسمح لذاكرتي أن تتسلل إلى أيام تبدو الآن بعيدة.. حينما شاهدت سعيد المغربي السبت الماضي ضيفا على برنامج الخالدات للحديث كباحث عن الأغنية المغربية وتابعت كيف قدمته المنشطة، صعقتني المفاجأة والخيبة.. هناك فنانون ضاقت بهم الخرائط، وتنكر لهم الوطن.. لم يكن التاريخ يوما منصفا، ولا الفن ولا السياسة.. ولا الحب.. كنت أتمنى أن أراه في حفل ضخم بالمسرح الوطني.. يتأبط عوده ويمطر الناس نغما وشعرا وقضية.. وحدها الغيمة العقيمة لا تمطر.. وإن كان سعيد المغربي قد ترك العود يرتاح إلى حين.. وحمل فكره ورسالته وعلمه إلى مدرجات الجامعة يدرس جيلا جديدا يتابع نجوم ستار أكاديمي واستوديو دوزيم.. أراهن أن القليل منهم فقط يعرفون من يكون سعيد المغربي.. تاريخه، فنه، وتضحياته والجماهير التي كانت ولازالت متعطشة لسماعه.. إنهم الخالدون الحقيقيون.. مهما حاولوا إسكاتهم.. لأنهم يسكنون بداخلنا.. أحببناهم دون مقابل، بحثنا عنهم ولم يفرضوا علينا.. جمعنا بهم حب الوطن، والفن الصادق الجميل، وقضايانا المشتركة وآلامنا ودموعنا وأحلامنا المجهضة.. ممنوعون للأسف.. لكنهم خالدون..