المرحوم عبدالرحمان المكينسي... إسم ظل حاضراً على امتداد تاريخ المغرب المستعمر والمكافح والمقاوم والمستقل والحديث... مغرب الرخاء ومغرب الأزمات... شخصية مركزية في تاريخ "حلالة" الشعبي وذاكرتها الجماعية... "" قد يكاد يكون من المستحيل الإحاطة بمختلف جوانب حضور الشخصية العاملة في الظل على امتداد عقود... لكن شعورنا برد ولو نزر "قليل" من الجميل إلى هذا الرجل دفعنا للتذكير ببعض المحطات المتناثرة من تاريخه الحافل بالإنتصارات والكبوات ومؤامرات أعدائه وخيانة بعض مقربيه... لكنه رغم ذلك ظل صامداً في الظل وبصمت كالجلمود ولم ينزل كبرياؤه قيد أنملة حتى في قلب العواصف وذروة المكائد.
حياة رجل مثل الفقيد عبدالرحمان المكينسي... السياسي... المقاوم... المقاول... المطعون من الخلف... أحد بناة "حلالة"، تستوجب مقام غير مقال يعد بعجالة حتى لا تفوت ذكرى كانت عزيزة عليه وعلى من رافقوه في مسار تشييد "حلالة" المقاومة... ذكرى انتفاضة 7 - 8 و9 غشت 1954 والتي أصبحت تعرف الآن بانتفاضة أبناء حلالة بشخصية فذة من عيار المرحوم عبدالرحمان المكينسي، هي مناسبة لتدارك ما فات أبناء حلالة من مواعيد مع التاريخ لتكريم بُناتها الوطنيين، سيما وأن تاريخ "حلالة" ومنطقتها ما يزال مجهولا -أو ربما معتما- بالنسبة للعديدين، خصوصاً الشباب منهم الذين بدأوا ينفضون غبار هذه المؤامرة عبر إعادة الإعتبار لكلمة "حلالة" بعد أن حملها الوافدون الإنتهازيون على المدينة حمولة قدحية. والفقيد عبدالرحمان المكينسي أحد "أبناء حلالة" المزداد بمدينة سلا العتيقة، ويعتبر من تلة الشباب الذين ساهموا بقوّة في خلق وانبعاث "روح حلالة" ككيان وتاريخ وصيرورة نضالية وكفاحية، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وحضارياً ورياضياً. إنه من الرعيل الأول الذي أقسم على جعل "حلالة" قلعة من قلاع المقاومة على جميع الأصعدة، وهذا في وقت سعت فيه السلطات الإستعمارية لجعل مدينة القنيطرة، "ميناء الليوطي" في عرفهم، واجهةلأنسنة الإستعمار الفرنسي الغاشم وجعله حضارياً يقوم على التطور والتحديث وليس على القمع والإضطهاد وسلب الهوية والحرية و"اعتقال مستقبل شعب بكامله".
وتتأكد ضرورة الإهتمام بخبايا تاريخ شخصيات من عيار المرحوم عبدالرحمان المكينسي في وقت مازال التعتيم يشمل جوانب هامة وأساسية من تاريخ حلالة، ولازال التنقيب والتقصي في دروب هذا التاريخ وذاكرته مطالبان بالمزيد من المجهودات لتشكيل تراكمات من شأنها أن تؤسس لمراجع ومنطلقات لتطوير وتوسيع مدى الدراسات المرتبطة بالتاريخ الشعبي والمحلي ل"حلالة".
والآن وقد وعى الجميع بأهمية ودور الذاكرة الجماعية المحلية -باعتبار أن مدينة بدون ثرات كجسم بدون روح- في تفعيل إعادة انتعاش التنمية الشاملة المحلية والجهوية، فإنه لم يعد هناك ما يثني عن الإهتمام بتاريخ شخصيات من أمثال عبدالرحمان المكينسي ضمن الإهتمام بتاريخ "حلالة"، وهذه ضرورة حضارية وتاريخية الآن -أكثر من أي وقت مضى- على درب إخراج تضحيات ومجهودات شخصيات فذة من التعتيم، ولعل الإهتمام ببعض شدرات فقط من تاريخ المرحوم عبدالرحمان المكينسي، الطويل العريض، من شأنه تفعيل سيرورة إعادة الإعتبار لشخصيات أخرى ظلت تمنح وتعطي دون أن تنال شيئاً ولو النزر من التقدير والإعتراف بالجميل.
عبدالرحمان المكينسي أدى القسم كان المرحوم عبدالرحمان المكينسي ضمن وفد أبناء حلالة الذين حظوا بشرف اللقاء مع الملك المرحوم محمد الخامس أياماً معدودة قبل نفيه في غضون شهر غشت 1953. كان بمعية الفقيد صفوة من شباب حلالة المقاومة، أحمد الدمناتي وشقيقه الصديق المكينسي وأحمد الجاي والمهدي البوعزاوي. وبعد مثول الوفد أمام جلالة الملك محمد الخامس قال لهم: "لماذا مجيؤكم عندي؟" فكان جوابهم: "يا جلالة الملك جئنا نجدد العهد معك لحماية العرش، ونحن نحمد مسيرتك هذه، زادتنا إيماناً بقضيتنا وإصراراً على الإستمرار في التضحية من أجل بقاء العرش"، فكان رد الملك محمد الخامس: "إني أبادلكم هذا الوفاء، وقد آليت على نفسي أن أستمر معكم في التضحية من أجل هذا الشعب، وأمضي معكم في العمل على الحصول على الحرية والإستقلال ولو اقتضى الأمر أن أعزل عن العرش، وأرجو من الله أن لا يقدر هذا".
صمود الرجل من صمود "الكاك" زمان رغم كل المآسي والقمع الشرس ظل النادي الرياضي القنيطري، من منتصف الأربعينات إلى منتصف خمسينات القرن الماضي، صامداً كالجلمود في وجه المضايقات الإستعمارية، لأن أفراده وأعضاءه المسيرين كانوا من طينة رجالات حلالة الذين أخدوا على عاتقهم التصدي للمخطط الإستعماري ومؤامرته سواء في المجال الرياضي أو مختلف المجالات الأخرى، وكل هؤلاء أبلوا البلاء الحسن في ركح النضال السياسي وميدان المقاومة، ومنهم محمد الديوري والأخوين الصديق وعبدالرحمان المكينسي وولد الحاج ميلود وأحمد الدمناتي وعبدالقادر طانطو وعبدالسلام البرنوصي وأحمد أوعابد وأحمد الفاسي وعلي الصياد والختلة وبوغابة ومحمد التوزاني ومصطفى الهومار والجيلالي الخضار وستانتان وغيرهم كثير.
وعندما انتفضت حلالة في 7-8و9 غشت 1954 كان كل أعضاء النادي الرياضي القنيطري في قلب الحدث، أعتقل لاعبوه ومسيروه وحوكموا بالسجن النافذ. ورغم المضايقات والتنكيل والتهديد والإعتقالات ظل الأخوين المكينسي ورفاقهما في تسيير شؤون الفريق صامدين كالجلمود، وذلك رغم إرغام الكاك على تعيين رئيس فرنسي له، إلا انه تم تفويت الفرصة على الإستعمار بتعيين دافيد عمار، صديق عبدالرحمان ورئيس الجالية اليهودية، على رأس الفريق الذي ظل متشبتاً بمغربيته، هوية وثقافة وطموحاً نحو الوحدة المغاربية. وقتئذ وبجانب تألقه في الصراع الدائم مع المستعمر، كان نجم النادي الرياضي القنيطري ساطعاً في المجال الرياضي -ميدان المقاومة الرياضية الذي لم يكن آنذاك يقل أهمية على المقاومة السياسية و"التعليمية" (مجال التدريس) بفعل تأطير الوطنيين للمجال الرياضي منذ البداية، وهذا ما تعذر فهمه على المستعمر لمدة سنوات.
بفضله تسلحت خلايا المقاومة للحقيقة والتاريخ، وبشهادة الكثيرين أبلى عبدالرحمان المكينسي البلاء الحسن في مجال تمكين المقاومة ورجالاتها من السلاح، إذ كان يزود خلايا المقاومة بالأموال عن طريق أحمد الدمناتي لإقتناء السلاح.
كما تكلف عبدالرحمان المكينسي بتحمل مصاريف أتعاب المحامين المنصبين للدفاع عن المقاومين والوطنيين المعتقلين في جملة من المدن المغربية خارج مدينة "حلالة"، ودأب كذلك الفقيد على تمويل خلية مكلفة بإرشاء بعض عناصر البوليس الفرنسيين لتسهيل الإتصال بالمعتقلين في طور التحقيق والتعذيب وإمدادهم بالتعليمات والأكل والتشجيع للقدرة على الصمود.
وكان للمرحوم دوراً فعالاً في تسهيل الإتصال مع المناضلين المعتقلين إعتباراً للعلاقة التي كانت تربطه بمديري السجون بالمدينة، لا سيما "بلانشار" و "أراكلان". هذا علاوة على مساهمته الكبيرة في تخفيف الضائقة المالية على أسر وعائلات المعتقلين.
هذا في وقت كان المقاومون بمدينة حلاّلة يذوقون الأمرين للحصول على الأسلحة للقيام بعمليات فذائية، وكان السلاح نادراً جداً بالمدينة، إذ إلى حدود أكتوبر 1954 لم تكن الأسلحة التي في حوزتهم تتعدى 10 قطع (مسدسات وبعض القنابل اليدوية). وقتئذ، كانت القاعدة هي الإعتماد على النفس لتوفير السلاح. وفي هذا الصدد لعب كل من الشقيقين الصديق وعبدالرحمان المكينسي والصديق بن داود أدواراً مهمة بخصوص منحهم الأموال لغرض اقتناء بعض الأسلحة في لحظات حرجة جداً.
عبدالرحمان المكينسي ظل مستهدفاً ظل عبدالرحمان المكينسي، الملقب ب"الكباص" من طرف المصالح الأمنية الإستعمارية التي حاولت توريطه كلما طرأ حادث مقاومة أو تصدي للمستعمر بالمدينة، ومن ذلك نسف خط السكة الحديدية التي خطط لها ثلة من شباب حلالة أياماً قليلة بعد نفي الملك محمد الخامس.
وقد حاولت منظمة "الوجود الفرنسي" اغتياله بمعية أعضاء بارزين في حزب الإستقلال والمقاومة والتجار المتعاطفين مع القضية الوطنية، إذ ظلت تتهمه بتمويل أنشطة حركة المقاومة بمدينة حلاّلة وخارجها.
كما خبر عبدالرحمان المكينسي دهاليز مخافر الشرطة أكثر من مرّة، حيث كان لا يتحمل أيه إهانة ولا يسمح بالمس بكل مايمت بصلة بالمقدسات الوطنية. وفي هذا الصدد وقعت له حادثة مع "كاراتيرو" (أحد المشاركين في اغتيال شخصيات وطنية بالدارالبيضاء) والذي كان يلعب ضمن فريق "الكاب" (الموالي للإستعمار)، وكان معروفاً باضطهاده للاعبين المغاربة الممارسين في صفوف "الكاك". وقد اصطدم يوماً مع عبدالرحمان المكينسي الذي صفعه بعد أن مسّ بحرمة المقدسات الوطنية سبّاً وشتماً،واعتقل وحوكم من أجل ذلك.
وعُرف عن الفقيد أنه كان آخر من كان يغادر المدينة التي تجري بها "الكاك" مقابلتها اعتباراً للإعتقالات التي كانت تليها سيما بسلا والرباط وسيدي قاسم
محطات من هنا وهناك لم يكن عبدالرحمان المكينسي غائباً بخصوص عملية الفرار الكبرى من السجن المركزي، إذ كلّف سجناء السجن المركزي بالقنيطرة الصويري (اللاعب والمدرب السابق للكاك) بعد الإفراج عنه بالإتصال بالفقيد وآخرين لتهييئ مخابئ لإيواء الفارين وضمان حمايتهم من عيون المخبرين.
وكعادته ساهم في تمويل هذه العملية بتوفير الأموال لعائلة اشقيريبة، ورغم أن المدينة كانت محاصرة من كل جانب ظل مخبأ الفارين في مأمن عن أنظار الإستعمار وعملائه.
إن عبد الرحمان المكينسي ظل دائماً مجنداً لمساعدة السجناء وعائلاتهم، بل كان على رأس لجينة اضطلعت بهذه المهمة.
وقبيل تنفيذ مؤامرة خلع الملك الراحل محمد الخامس عن عرشه، والتي حيكت بضواحي مدينة القنيطرة، أمر الشهيد محمد الديوري بإنشاء لجنة الطوارئ وكان عبدالرحمان المكينسي عضواً فيها تحت إمرة شقيقه الصديق بمعية ثلة من شباب حلالة المقاومة.
وهناك حادث منتصف غشت 1953، إذ عُرف على الفقيد عبدالرحمان المكينسي أنه يتحرك ويعمل في الظل بعيداً عن حبِّ الظهور، وبشهادة الكثيرين ظل إسم الفقيد حاضراً وبامتياز في مختلف المنعطفات التي عرفتها المدينة. ومنها اجتماع يوم السبت 15 غشت 1953 الذي عقد بدار شقيقه الأكبر الصديق المكينسي والكائن بشارع محمد الخامس، وهو الإجتماع الذي نُظِّم عقب برمجة زيارة التهامي الكلاوي للمدينة وبع اللقاء الذي أجراه محمد الديوري مع ثلة من الوطنيين ببحيرة سيدي بوغابة لتقييم الوضع قصد ضمان شروط استمرار العمل السياسي رغم المضايقات الإستعمارية الخانقة.