وقف رجل مسن في حوالي الثمانين من العمر أمام باب شيخ الطريقة القادرية البودشيشية، حمزة البودشيشي، بمعية أشخاص آخرين قدموا من مكان بعيد لزيارة الشيخ، في انتظار السماح لهم برؤيته، في الوقت الذي كان فيه الحارس المرابط قرب الباب ينهي إلى علمهم بأن الزيارة غير مسموح بها لأحد إلا في الغد، أي أمس الخميس. تلقى الرجل المسن، الذي كان يضع على عنقه سبحة من العاج، مكالمة هاتفية يبدو أنها من قريب له، ضغط على الأوكي وقال: «نحن أمام باب سيدي حمزة رضي الله عنه وأرضاه، نريد رؤيته، نسألك الدعاء»، بعد ذلك جلس الرجل غير بعيد عن الباب متعبا من الانتظار، دون أن يفقد الأمل في السماح له أخيرا بالدخول على الشيخ والسلام عليه. هذا الزائر الغريب واحد من عشرات الآلاف الذين بدؤا أول أمس الأربعاء التقاطر على مقر الزاوية البودشيشية بقرية مداغ، أو ميداغ باللهجة المحلية، على بعد سبعة كيلومترات من مدينة بركان، حيث يظلون هناك ثلاثة أيام حتى انتهاء حفلات المولد النبوي التي تقام فيها الأذكار والصلوات بحضور شيخ الطريقة إلى وقت متأخر من الليل. ومنذ أول أمس الأربعاء، بدأت وفود الطريقة القادرية في الحج إلى مقر الزاوية، يمثلون مختلف مناطق المغرب وجهات مختلفة من العالم، بعضهم على متن سيارات خاصة والكثيرون في حافلات خصصت لهذا الغرض، تحمل كل واحدة منها لافتة باسم الوفد والمدينة التي جاء منها. وفي الطريق بين مداغ وبركان لم تنقطع طوابير الحافلات طيلة أمس الخميس، حيث انتظم العديد من رجال الأمن في نقاط أمنية اعتاد عليها سكان المنطقة الشرقية هذه الأيام، والسبب كما يقول البعض هنا، هو قرب المنطقة من الحدود الجزائرية والتصدي لأي محاولة للمساس بالوضع الأمني. ويبدو أن المسؤولين عن الزاوية البودشيشية استعدوا قبل وقت طويل للجماهير الغفيرة التي ستحج إلى مقرها المجاور لقرية صغيرة تنتعش فيها الحركة التجارية مع كل موسم إحياء للمولد النبوي بالزاوية، ففي المناطق المحيطة بها رسم مربد بالجير الأبيض لعشرات الحافلات لتأخذ مكانها بانتظام، بينما يلاحظ وجود رجال أمن ورجال للقوات المساعدة لتنظيم حركة المرور والحيلولة دون حدوث أي اختناق. وبخلاف العام الماضي، بدا مقر الزاوية هذا العام أكثر اتساعا واستعدادا لاستقبال عشرات الآلاف من فقراء الطريقة، وعلى بعد عشرات الأمتار من مقر الزاوية الأم، حيث مسكن الشيخ حمزة، ينتصب بناء ضخم لا زالت الأوراش مستمرة فيه منذ أربع سنوات، تاريخ بدء العمل فيه، ويرد منير القادري البودشيشي، حفيد الشيخ حمزة الذي يلاحقه المريدون أينما حل وارتحل لتقبيل كتفه أو كفيه، بأن السبب في تأخر البناء هو ضعف ميزانية الزاوية، لكنه يأمل في أن يكتمل بناؤه في العام المقبل، لأن الزاوية مقبلة على برنامج عمل جديد للتوسع والانطلاق. تصل مساحة البناء إلى حوالي 7000 متر مربع، ويتكون من طابقين، الطابق الأرضي سيكون عبارة عن مسجد، وهو المكان الذي احتضن في العام الماضي حفلات المولد، مثل هذا العام، بينما سيكون الطابق الثاني عبارة عن معهد أو جامعة صوفية يتلقى فيها أتباع الزاوية العلوم الشرعية وتعاليم التصوف والطريقة البودشيشية. ويقول أحد مقدمي الطريقة إن البناء الجديد مؤشر على توسع الطريقة البودشيشية التي أصبح الكثير من الناس يقبلون عليها في الأعوام الأخيرة، لأن القاعة الرئيسية في المقر الأم لم تعد تستوعب فقراء الطريقة، لذلك تم الشروع في بناء المسجد الذي تتجاوز مساحته تلك القاعة بأربعة أضعاف، وتوقع نفس المتحدث أن يزداد عدد المريدين الذين يزورون الزاوية هذا العام بنسبة 30 في المائة. ومع التوسع الذي باتت تشهده الطريقة البودشيشية فإن المسؤولين فيها باتوا يدركون أهمية الانفتاح على الإعلام للتعريف بخطابها الصوفي الداعي إلى المحبة والإخاء والسلام. وقال أحد مسؤولي الطريقة، راغبا في عدم الكشف عن اسمه، إن هذا التوسع مرده التطور الحاصل في المغرب، وزوال ما أسماه بالنقاط السوداء عندما كانت الدولة لا ترحب بالزوايا الصوفية بسبب الإرث السياسي لأحزاب الحركة الوطنية التي كان تحارب الزوايا بعد مرحلة الاستقلال، وربط نفس المسؤول الإشعاع الجديد للطريقة البودشيشية والزوايا الصوفية بشكل عام بتراخي الأحزاب السياسية وطغيان الماديات على الإنسان والبحث عن ملاذ روحي آمن. ويقول أحد المريدين القدماء للطريقة إنه لا يزال يتذكر وقائع المواجهات بين أتباع الطريقة ورجال الأمن في مقر الزاوية في السبعينات، عندما كانت السلطة تسعى لمحاربة الطريقة. وقال جيرار برونون، وهو فرنسي مقيم بالرباط حيث يدير مقاولة اقتصادية وانتمى إلى الطريقة قبل خمس سنوات بعد اعتناقه الإسلام وأصبح يسمى جواد: «الطريقة أنقذتني من الضياع، وسيدي حمزة أنار لي الطريق»، ويركز جواد، الذي يهتم بالعلاقة بين الاقتصاد والقيم الروحية، على ضرورة الترقي الروحي للفرد للعودة إلى ما يسميه بالأصول الأولى لعلم الاقتصاد التي كانت أبعد ما تكون عن الرأسمالية المتوحشة اليوم، ويقول إن التربية الروحية يمكنها أن تهزم الرأسمالية وتعيد الاعتبار للإنسان بعدما أصبح مجرد رقم في المعادلات الاقتصادية الحديثة التي يمثل فيها الربح أعلى قيمة. لكن ربما كانت مفاجأة احتفالات الزاوية البودشيشية بالمولد النبوي هذا العام هي حضور مغني الراب الفرنسي ذي الأصل الكونغولي، عبد المالك، الذي انتمى إلى الطريقة قبل سنوات قليلة وألف كتابا عن تجربته كمنحرف في ضواحي باريس عنوانه «بارك الله فرنسا»، وأنجب مولودا سماه حمزة، على اسم شيخ الطريقة. وقال عبد المالك، الذي كان يدعى ريجيس فاييت ميكانو قبل إسلامه، في حوار مع «المساء» ينشر لاحقا، إن التصوف هو الحل الوحيد لمعضلات الشباب المسلم في أوروبا، وإنه بعد دخوله الطريقة أصبح يركز على الغناء والموسيقى لترويج التعاليم الصوفية في العالم، حيث أقام حفلات في فرنسا وبلجيكا وكندا والولايات المتحدة لاقت ترحيبا واسعا.