كان على البحث العلمي في الثقافة الشعبية المغربية أن ينتظر أكثر من ربع قرن حتى يظهر كتاب في هذا المستوى العلمي، يتيح نفض الغبار عن مدونة شعرية هامة في تاريخ الشعر الشعبي المغربي وبالأخص قصيدة الزجل. في كتابه الشعري «شذرات من سفر تكوين منسي»- يكتب عبد اللطيف اللعبي بلغة رجل سينتحر، و ليس لديه من الوقت إلا ما قد لا يكفيه لكي يقول كلماته الأخيرة، لذلك يفاجئنا الكتاب بحشد هائل من الصور والتوصيفات وسرد الأحداث والأهوال والشذرات المستعجلة التي توحي وتحيل دون أن تقول كل شيء أو دون أن تقول الشيء كما هو، وسنجد أنفسنا بالضرورة وسط غابة من الرموز والإشارات، فالدال الواحد يحتمل أكثر من مدلول والجملة الواحدة تخفي خلفها العديد من الجمل، غير أن هذا الازدحام وهذه الرغبة في مباغتة القارئ لا يمحوان عن النص الشعري طابعه الحكمي، كأنك في حضرة كونفشيوس أو أمام الحكيم لقمان أو في رحاب فلسفة التاو. يستدعي عبد اللطيف اللعبي كل شيء من الواقع و مما فوق الواقع ليقول أشياء كثيرة تدعو في نهاية المطاف إلى غاية واحدة: خروج الإنسان من قوقعته أو قواقعه المتعددة، خروجه من الظلام الذي أقحم نفسه فيه أو اقحمه فيه الآخرون قسرا، و في مسعاه النبيل هذا تلوح أمامه قولة جون جاك روسو المؤلمة:«ولد الإنسان حرا، ومع ذلك فهو، في كل مكان، يرسف في الأغلال». يتماس الكتاب مع أقواس قزح التي رسمها الفكر الإنساني في سماء البشرية ويتقاطع الشعر هنا مع جوهر الفكر في تيماته الاكثر بريقا: الشمولية والتسامح وشساعة الانتماء وقبول الاختلاف مع الآخر ومواجهته عبر محاورته وطمس المرجعيات الضيقة. يقول الفيلسوف إزيك: «لا يمكن للفكر أن يحيا إلا إذا كان ذلك التسامح بين كل الأطراف»، هذا ما يسعى الكتاب إلى ترسيخه. إنها ثقافة التجاوز والتعالي عن الصغائر ونسيان الأخطاء القديمة وطي تلك الصفحات غير المرغوب فيها مهما كان حجمها وعددها، فالإنسان بمقدوره أن ينسى شرط أن يجد بديلا قادرا على أن ينسي: فيما بيننا سيتسع حقل النسيان ولن يصمد أي شيء في وجه أعشابه الهوجاء إنها فكرة دافيد هيوم:«القول بالوحدة دون الاختلاف ما هو إلا جهل» تلك التي يبلورها هذا السطر الشعري لعبد اللطيف اللعبي: «أعيش وأترك غيري يعيش» وفلسفة فرانسوا :«بالرغم من هذا الاختلاف فالإنسان يظل يساوي نفسه» هي التي تشع خلف هذه الشذرة: الإنسان الأول هو أيضا الأخير إنها مهمة عبد اللطيف اللعبي في الحياة والكتابة: الانفتاح على الآخر والتفاعل مع ثقافته ولتحول إلى بوابة أو جسر بين اللغات والثقافات، لا يؤمن الشعر هنا بالهوية الضيقة للكائن ولكتابته، لذلك لن تجد إحالة على مكان أو زمان سوى المكان القيامي أو مكان التكوين(الكون)، أما الزمان في النص فهو زمان مطلق، أو ما يسميه الشاعر في إحدى شذراته: خارج الزمان. يعود الكاتب في نصه الملحمي إلى ما قبل الكتابة وما قبل اللغة و ما قبل التواجد الانساني ليعاين الحركة الأولى في الكون: في البدء كانت الصرخة و إذا بالشقاق قد حل ليشرع في وصف التكوين الأول للعناصر: الماء و النار وتجلي الشكل وانفصال الأرض عن السماء والبر عن اليابسة، أو ما سيسميه ب«معارك الانفصال الشنيعة» غير أن القارئ سيلتبس عليه الأمر ولا يدري إن كان يشهد بداية العالم (لحظة التكوين) أو نهايته (لحظة الفناء)، فمقاطع كهاته تجعلك تنتقل من أول الزمان إلى آخره: الجميع يزدرد الجميع كل واحد سيصل دوره وبالفكين الكالحين كانت كل موجة تقطع اللحم الحي تجهز على آخر الهمهمات تبهم العالم و تشتط في ذلك ألا تشي هذه السطور بانقراض الكائن و نهايته؟ غير أن اللعبي سيضعنا أمام أحداث لم نكن نتوقعها في تاريخ التكوين، فبعد اشتداد الظلمة واندلاع البروق وتحرك النيازك على مدار «الزمن الذي تستغرقه المحن الكبرى» سوف تتراجع الأمواج عما كانت تفعله بالخليقة، وربما لهذا السبب سمى كتابه «شذرات من سفر تكوين منسي» فهناك أشياء منسية سيقولها الشعر إن لم تقلها المجالات الأخرى للمعرفة. فعن أية نار وأية زلازل يتحدث عبد اللطيف اللعبي؟ أي تكوين هذا وأية أمواج تلك؟ أية صرخة وأي خراب؟ من هي الكائنات الهجينة؟ ومن هو الوحش الذي لا يوصف؟ من هو الطائر الصغير المسلوخ؟ هذا ما يقوله النص، بل يقول أكثر من ذلك، فثمة الكسوف والتماثيل التي تسرنم، العفاريت والفرار الجماعي والميتات المشتبه في أمرها، هناك النساء والفقراء والأطفال الساديون والشبان الذين شاخوا قبل الأوان، المؤمنون، الجلادون والمتقاعدون الذين أصبحوا أجدادا وبستانيين مهرة، الجنرالات، القتلة، محترفات الإجهاض، صانعوا الفساد.. ألا تحيل كل هذه القرائن اللفظية على التجربة التي عاشها اللعبي ومجايلوه إبان ما سيسمى لاحقا بسنوات الرصاص، سنوات القمع والاعتقالات والانتهاكات الجسيمة ومحاصرة الأفكار واغتيال الأحلام الجماعية؟ وللقارئ الذي تحلو له قراءة التاريخ عن طرق الأدب أن يقف على أبواب هاته العوالم المظلمة في رواية الطاهر بنجلون «تلك العتمة الباهرة» المترجمة إلى العربية بعناية خاصة من لدن بسام حجار.