كان على البحث العلمي في الثقافة الشعبية المغربية أن ينتظر أكثر من ربع قرن حتى يظهر كتاب في هذا المستوى العلمي، يتيح نفض الغبار عن مدونة شعرية هامة في تاريخ الشعر الشعبي المغربي وبالأخص قصيدة الزجل. وميزة هذا الكتاب الذي يجمع ديوان «عزري العلوة» أنه يضع بين أيدي الباحثين والجمهور وعموم القراء ديوانا كاملا، ما لم يظهر في الأفق القادم ما يؤكد وجود قصائد أخرى لسيدي امحمد البهلول، الشاعر الزجال وصاحب الكلام المنظوم والمتصوف العارف الذي ظهر في بلاد مزاب في قبيلة البهالة. بالنظر إلى المجهود العلمي الكبير الذي بذله الباحث مصطفى وزاع، فإن كتابه الصادر مؤخرا عن منشورات «الزمن» سلسلة شرفات، والذي يحمل عنوان «الكلام المكمول لسيدي امحمد البهلول (ديوان عزري العلوة)»، يعتبر من الدراسات القيمة التي تناولت جانبا من التراث الشفوي المغربي المنسي، ممثلا في قصيدة الزجل، تلك القصيدة التي عبرت عن وجدان المغاربة، وعن آمالهم وطموحاتهم في القرن 11 الهجري السابع عشر الميلادي. يكتب الدكتور سعيد يقطين عن شخصية الكتاب سيدي امحمد البهلول: «قليلة هي الشخصيات في تاريخ المغرب التي خصت بهذه الحظوة والمكانة، فسيدي امحمد البهلول صار رمزا مغربيا يحضر اسمه في مختلف المناسبات الشعبية، حيث يكون الاحتفال ويكون الفرح، في الأعراس وفي الساحات العمومية وفي الأسواق الشعبية، حيث يجتمع الناس في الحلاقي لسرقة لحظات المتعة». استطاع اسم سيدي امحمد البهلول أن يخترق ويصمد وأن يصل على مدى أربعة قرون، متجددا في ثوب الأغنية الشعبية، وبالضبط مع قصيدة العلوة التي تمجده وتذكر محاسنه وكراماته وتشيد به باعتباره وليا صالحا. ويعتبر التفاؤل بعزري العلوة، كما يذهب إلى ذلك الباحث المغربي سعيد يقطين، ملزمة أساسية وعتبة لا بد أن يمر منها المغنون في كل مكان، وفي الأعراس يبدؤون الحفل ب«العلوة» ويختمون بها. يقول يقطين: «لقد ظل عزري العلوة» يتردد من خلال «العلوة» كنغمة موسيقية لها صيتها وموقعها في الغناء الشعبي المغربي، لكن لا أحد يعرف من هو عزري العلوة؟ ولا متى عاش؟». لكن الجواب الحاسم عند الباحث المغربي المصطفى وزاع، وليس وزاغ كما جاء خطئا في غلاف الكتاب، صاحب هذا الكتاب الثمين في الثقافة الشعبية، إذ يحدد الفترة الزمنية التي عاش فيها عزري العلوة في القرن 11 الهجري، وبالضبط في عهد الدولة العلوية في فترة حكم السلطان القوي المولى إسماعيل. ولقد عاش الرجل في تلك الفترة المهمة من تاريخ المغرب، كل تحولات المغرب القبلي، المبني على العصبية القبلية وعلى هيبة المخزن، وهي المرحلة التي عبر عنها بوضوح في شعره وبالأخص في الجانب الاجتماعي منه والجانب الحكمي، حيث بنى منهجه في الصداقة والعداوة وفي مفاهيم الخير والشر والإساءة ورد الإساءة وفي العديد من الجوانب المتصلة بأخلاق المعاملات، مما يعني أن الرجل قد عاش في فترة صعبة في غاية الدقة، عانى فيها من أسلوب الصلاح الذي كان يدعو إليه، ومن حالة الحصار التي كانت مفروضة على الدعاة والمصلحين في مغرب القرن الوسيط. غير أن هذا سيدي امحمد البهلول لم يؤسس لطريقة ولا لزاوية ولم يكن له أتباع، يقول: «لم يترك سيدي امحمد البهلول طريقة صوفية لها شيوخ ومريدون، كما نجد مع العديد من الطرق الصوفية بالمغرب، ولكنه ترك كلاما مكمولا، له بعد شعري يتميز بعمق جماليته صيغة وتركيبا وقوة دلالية في التعبير عن الإنسان، والعلاقات بين الناس. وهو في هذا الكلام الكامل المكمول يجسد ممارسته الصوفية ورؤيته عن ذاته في تفاعلها مع الواقع في مختلف تجلياته»، هكذا يلخص يقطين وضع الرجل في منظومة الأولياء والصالحين وأهل «الكلام».