[email protected] كلما وقفت أتأمل شاطئا ما من هذا العالم، يبدو لي الأفق في الضفة الأخرى، فأحتار في تحديد مكاني وخريطة انتمائي.. أتساءل دوما إن كان البيت هو ذاك الذي نحمل عنوانه على أوراقنا الثبوتية، أم هو ذاك الذي نسكنه.. أم هو بيت يسكننا، نحمله بداخلنا أينما رحلنا، نأثثه بذكرياتنا وندفئه بأحلامنا ونملؤه بأسرار خبأناها في دهاليز القلب المظلمة.. أسكن بيتا أنيقا هادئا بدبي، لم تكد تمضي سوى أيام قليلة على استقراري به، قبل أشهر، حتى أصبح عشي الدافئ، حيث أغراضي وأوراقي، كتبي وملابسي سجادة الصلاة، وحقائبي.. ألفت المكان وتعودت على طعم الأكل ومذاق الماء وحرارة الطقس والعباءات السوداء والسيارات الفاخرة والأبراج الشاهقة.. صرت أفهم عقلية الناس ونمط تفكيرهم وتقاليدهم.. وأتدبر حالي بإنجليزيتي الركيكة وابتسامتي التي تفتح كل الأبواب الموصدة.. فجأة اكتشفت أنني غريبة.. ومشتاقة.. حينما يجتاحك الشوق يربك جسدك، يوتر هدوءك ويشعل الحريق في صدرك.. مهما حصنت روحك ضده، يتملكك ويؤرقك.. هناك لحظات يتوقف فيها الزمن، فيصبح الشوق لهفة.. وانتظارا مضنيا لشيء ما.. صوتا أو وجها أو روحا أو كلمات.. أو وطنا.. مشتاقة للعودة.. إلى هناك.. إلى أشياء لم أعتقد يوما أنني قد أفتقدها.. تفاصيل يومية بسيطة تجعلك مرتبطا وجدانيا وروحيا وحسيا بمكان ما تعتبره وطنك.. وتراه مختلفا عن كل بقاع العالم في شمسه وقمره وفوضاه وأعياده وأصواته وروائحه.. المدن روائح.. ودبي بدون رائحة.. المدن أرصفة.. ودبي مدينة بلا رصيف.. لذلك هي مدينة بلا روح.. بلا عمق.. بلا هوية.. الشوق إحساس متناقض، كأن تكون بين المرض والمعافاة، استغاثة قلب.. إحساس موجع بالوحدة والبعد والضجر.. حريق يشب في الصدر تحصن روحك ضده بالانتظار والصبر والتمني.. سفري الدائم علمني أن كل شيء يذهب إلى حتفه.. وأن بين تجهيز حقيبة وإفراغ أخرى، يركض الزمن لاهثا بين مطار ومطار ومن محطة إلى أخرى.. حينما وصلت إلى دبي أول مرة، نظرت إليها بإعجاب صامت، ألفت محاورة المدن، أحب أن أتوه في دروب لا أعرفها.. أكتشف بنفسي مفاتنها وخفاياها.. وحينما اكتشفت مأساة اسمها «العمال الهنود» وكل الآسيويين، احتقرتها.. أصبحت تبدو لي مهجورة وموحشة.. هناك مدن كالمقابر تسحق البسطاء وتغتالهم ببطء.. والهنود بدبي أشباح فقدوا إنسانيتهم على الأبراج والمطارات والفنادق التي تشيد على مأساتهم.. للمدن فلسفة غريبة، إما تقربك منها أو تقربك من ذاتك.. سأنهي مونطاج أفلامي قريبا، لم يتحدد بعد موعد مغادرتي، لكنني أحس فعلا بأنني قد رحلت.. روحي سبقتني إلى هناك.. مشتاقة.. لذلك كلما تعبت عيناي من التحديق في الشاشة، أدير الكرسي نحو النافذة، وأتلصص على المدينة من أعلى.. أعاتبها في صمت وأدينها بشدة.. سيخلو هذا المكتب من شغبي ونقاشاتي وصمتي، وصوت ناس الغيوان ونعمان لحلو والبيغ ولفناير وعبد الحق الزروالي وكل الفنانين الذين دعموني وأغنوا أفلامي.. سأرحل.. كأنني لم أكن، سوى آثار توحي بأنني مررت من هنا.. وستظل المدينة تستيقظ كل صباح.. ن تنتبه قصدا.. إلى أنني غادرتها ذات مساء..